الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 12 ] قوله عز وجل:

ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين

الضمير في قوله تعالى : ( من بعدهم ) عائد على الأنبياء المتقدم ذكرهم وعلى أممهم، و الآيات في هذه الآية عام في التسع وغيرها، وقوله تعالى: فظلموا بها المعنى: فظلموا أنفسهم فيها وبسببها وظلموا أيضا مظهرها ومتبعي مظهرها. وقيل: لما نزلت "ظلموا" منزلة "كفروا" و"جحدوا" عديت بالباء، كما قال:

قد قتل الله زيادا عني

فأنزل "قتل" منزلة "صرف"، ثم حذر الله من عاقبة المفسدين الظالمين، وجعلهم مثالا يتوعد به كفرة عصر النبي صلى الله عليه وسلم.

وفرعون: اسم كل ملك لمصر في ذلك الزمان، فخاطبه موسى عليه السلام بأعظم أسمائه وأحبها إليه إذ كان من الفراعنة كالنمارذة في اليونان وقيصر في الروم وكسرى في فارس والنجاشي في الحبشة. وروي أنه موسى بن عمران بن فاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، وروي أن اسم فرعون موسى عليه السلام الوليد بن مصعب، وقيل: هو فرعون يوسف، وأنه عمر نيفا وأربعمائة سنة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ومن قال إن يوسف المبعوث الذي أشار إليه موسى في قوله: ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات هو غير يوسف الصديق فليس يحتاج إلى نظر، ومن قال إنه [ ص: 13 ] يوسف الصديق فيعارضه ما يظهر من قصة يوسف، وذلك أنه ملك مصر بعد عزيزها، فكيف يستقيم أن يعيش عزيزها إلى مدة موسى؟ فينفصل أن العزيز ليس بفرعون الملك، إنما كان حاجبا له.

وقرأ نافع وحده "علي" بإضافة "على" إليه، وقرأ الباقون "على" بسكون الياء، قال الفارسي : معنى هذه القراءة أن "على" وضعت موضع "الباء"، كأنه قال: "حقيق بألا أقول على الله إلا الحق" كما وضعت "الباء" موضع "على" في قوله تعالى: ولا تقعدوا بكل صراط فيتوصل إلى المعنى بهذه وبهذه، وكما تجيء "على" أيضا بمعنى "عن"، ومنه قول الشاعر في صفة قوسه:


أرمي عليها وهي فرع أجمع ... وهي ثلاث أذرع وإصبع



قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

و"حقيق" -على هذا- معناه: جدير وخليق، وقال الطبري : قال قوم: "حقيق" معناه: حريص فلذلك وصلت بـ"على"، وفي هذا القول بعد، وقال قوم: "حقيق" صفة لـ"رسول"، تم عندها الكلام، و"علي" خبر مقدم، و"أن لا أقول" ابتداء تقدم خبره، وإعراب "أن" على قراءة من سكن الياء خفض، وعلى قراءة من فتحها مشددة رفع، وقال الكسائي : في قراءة عبد الله : "حقيق بألا أقول" ، وقال أبو عمرو : في قراءة عبد الله : "حقيق أن أقول" وبه قرأ الأعمش . وهذه المخاطبة -إذا تأملت- غاية في التلطف في القول اللين الذي أمر عليه السلام به.

وقوله: قد جئتكم ببينة من ربكم الآية. البينة هنا إشارة إلى جميع آياته، وهي على المعجزة هنا أدل، وهذا من موسى عرض نبوته، ومن فرعون استدعاء خرق العادة الدال على الصدق.

[ ص: 14 ] وظاهر الآية وغيرها أن موسى عليه السلام لم تنبن شريعته إلا على بني إسرائيل فقط، ولم يدع فرعون وقومه إلا إلى إرسال بني إسرائيل، وذكره لعله يخشى أو يزكى ويوحد كما يذكر كل كافر، إذ كل نبي داع إلى التوحيد وإن لم يكن آخذا به ومقاتلا عليه، وأما أنه دعاه إلى أن يؤمن ويلتزم جميع الشرع فلم يرد هذا نصا، والأمر محتمل، وبالجملة فيظهر فرق ما بين بني إسرائيل وبين فرعون والقبط، ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى عليه السلام أبدا ولا عارضهم، وكان القبط مثلا عبدة البقر وغيرهم؟ وإنما احتاج إلى محاورة فرعون لتملكه على بني إسرائيل.

وقوله تعالى: فألقى عصاه الآية. روي أن موسى عليه السلام قلق به وبمحاورته، فقال فرعون لأعوانه: خذوه، فألقى موسى العصا فصارت ثعبانا وهمت بفرعون فهرب منها، وقال السدي : إنه أحدث وقال: يا موسى كفه عني فكفه، وقال نحوه سعيد بن جبير .

و "إذا" ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرد من حيث كانت خبرا عن جثة، والصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان في كل موضع، ويقال: إن الثعبان وضع أسفل لحييه في الأرض وأعلاهما في شرفات القصر. والثعبان: الحية الذكر، وهو أهول وأجرأ، قاله الضحاك . وقال قتادة : صارت حية شعراء ذكرا، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: غرزت ذنبها في الأرض ورفعت صدرها إلى فرعون. وقوله: مبين معناه: لا تخييل فيه، بل هو بين أنه حقيقة، وهو من أبان بمعنى بان، أو من بان بمعنى سلب عن أجزائه.

وقوله: ونزع يده معناه: من جيبه أو كمه حسب الخلاف في ذلك، وقوله: فإذا هي بيضاء قال مجاهد : كاللبن أو أشد بياضا، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس تتألق، وكان موسى عليه السلام ذا دم أحمر إلى السواد، ثم كان يرد يده فترجع إلى لون بدنه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهاتان الآيتان عرضهما موسى عليه السلام للمعارضة، ودعا إلى الله بهما، [ ص: 15 ] وخرق العادة بهما، وتحدى الناس إلى الدين بهما، فإذا جعلنا التحدي الدعاء إلى الدين مطلقا فبهما تحدى، وإذا جعلنا التحدي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجزة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك، لأن المعارضة والعجز فيها وقعا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويقال: التحدي هو الدعاء إلى الإتيان بمثل المعجزة، فهذا نحو ثالث، وعليه يكون تحدى موسى بالآيتين جميعا، لأن الظاهر من أمره أنه عرضهما للنظر معا وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلهما، وروي عن فرقد السبخي أن فم الحية كان ينفتح أربعين ذراعا.

التالي السابق


الخدمات العلمية