الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [29]

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم أي: لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل أي: ما لم تبحه الشريعة كالربا والقمار والرشوة والغصب والسرقة والخيانة، [ ص: 1203 ] وما جرى مجرى ذلك من صنوف الحيل.

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن تكون تجارة أي: معاوضة محضة كالبيع عن تراض منكم في المحاباة من جانب الآخذ والمأخوذ منه، وقرئ: (تجارة) بالرفع على أن (كان) تامة، وبالنصب على أنها ناقصة، والتقدير: إلا أن تكون المعاملة أو التجارة أو الأموال تجارة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السيوطي في "الإكليل": في الآية تحريم أكل المال الباطل بغير وجه شرعي، وإباحة التجارة والربح فيها، وأن شرطها التراضي، ومن ههنا أخذ الشافعي رحمه الله اعتبار الإيجاب والقبول لفظا؛ لأن التراضي أمر قلبي فلا بد من دليل عليه، وقد يستدل بها من لم يشترطهما إذا حصل الرضا، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      أي لأن الأقوال كما تدل على التراضي فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا، فصح بيع المعاطاة مطلقا.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "الروضة الندية": حقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى، والمراد ها هنا أمارته، كالإيجاب والقبول، وكالتعاطي عند القائل به، وعلى هذا أهل العلم؛ لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعضهم من ألفاظ مخصوصة، وأنه لا يجوز البيع بغيرها، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: (بعت منك وبعتك) فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها، ولم يرد في ذلك شيء، وقد قال الله تعالى:تجارة عن تراض فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط، ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة، بأي لفظ وقع، وعلى أي صفة كان، وبأي إشارة مفيدة حصل، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: أن المعنى لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين، فإن كلهم كنفس واحدة، والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: النهي عن قتل الإنسان نفسه ، وقد احتج بهذه الآية عمرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1204 ] على احتجاجه، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود، ولفظ أحمد :

                                                                                                                                                                                                                                      عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟! قال: قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئا وهكذا أورده أبو داود.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : وهذا، أي: المعنى الثاني - والله أعلم - أشبه بالصواب، وقد توافرت الأخبار في النهي عن قتل الإنسان نفسه والوعيد عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      روى الشيخان وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1205 ] وأخرج الشيخان عنه - رضى الله عنه - قال: شهدنا خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال، حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة، فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها أسهما، فنحر بها نفسه، فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا يا رسول الله، صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه، فقال: قم يا فلان، فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر وهذا لفظ البخاري.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى أبو داود عن جابر بن سمرة - رضي الله عنهما - قال: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل نفسه فقال: لا أصلي عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      ولهذا قال تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية