الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها .

استئناف تشريع في أحكام النساء التي كان سياق السورة لبيانها وهي التي لم تزل آيها مبينة لأحكامها تأسيسا واستطرادا ، وبدءا وعودا ، وهذا حكم تابع لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من جعل زوج الميت موروثة عنه وافتتح بقوله : يا أيها الذين آمنوا . للتنويه بما خوطبوا به .

وخوطب الذين آمنوا ليعم الخطاب جميع الأمة ، فيأخذ كل منهم بحظه منه ، فمريد الاختصاص بامرأة الميت يعلم ما يختص به منه ، والوالي كذلك ، وولاة الأمور كذلك .

وصيغة ( لا يحل ) صيغة نهي صريح لأن الحل هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة ، فنفيه يرادف معنى التحريم .

والإرث حقيقته مصير الكسب إلى شخص عقب شخص آخر ، وأكثر ما يستعمل في مصير الأموال ، ويطلق الإرث مجازا على تمحض الملك لأحد بعد المشارك فيه ، أو في [ ص: 283 ] حالة ادعاء المشارك فيه ، ومنه : يرث الأرض ومن عليها . وهو فعل متعد إلى واحد ، يتعدى إلى المتاع الموروث ، فتقول : ورثت مال فلان ، وقد يتعدى إلى ذات الشخص الموروث ، يقال : ورث فلان أباه ، قال تعالى : فهب لي من لدنك وليا يرثني . وهذا هو الغالب فيه إذا تعدى إلى ما ليس بمال .

وتعدية فعل ( أن ترثوا ) إلى النساء من استعماله الأول : بتنزيل النساء منزلة الأموال الموروثة ، لإفادة تبشيع الحالة التي كانوا عليها في الجاهلية . أخرج البخاري ، عن ابن عباس ، قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذا الآية . وعن مجاهد ، والسدي ، والزهري كان الابن الأكبر أحق بزوج أبيه إذا لم تكن أمه ، فإن لم يكن أبناء فولي الميت إذا سبق فألقى على امرأة الميت ثوبه فهو أحق بها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها . وكان من أشهر ما وقع من ذلك في الجاهلية أنه لما مات أمية بن عبد شمس وترك امرأته ولها أولاد منه : العيص ، وأبو العيص ، والعاص ، وأبو العاص ، وله أولاد من غيرها ، منهم أبو عمرو بن أمية فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه ، فولدت له : مسافرا ، وأبا معيط ، فكان الأعياص أعماما لمسافر وأبي معيط وإخوتهما من الأم .

وقد قيل : نزلت الآية لما توفي أبو قيس بن الأسلت رام ابنه أن يتزوج امرأته كبشة بنت معن الأنصارية ، فنزلت هذه الآية . قال ابن عطية : وكانت هذه السيرة لازمة في الأنصار ، وكانت في قريش مباحة مع التراضي . وعلى هذا التفسير يكون قوله " كرها " حالا من ( النساء ) أي كارهات غير راضيات ، حتى يرضين بأن يكن أزواجا لمن يرضينه ، مع مراعاة شروط النكاح ، والخطاب على هذا الوجه لورثة الميت .

وقد تكرر هذا الإكراه بعوائدهم التي تمالأوا عليها ، بحيث لو رامت المرأة المحيد عنها ، لأصبحت سبة لها ، ولما وجدت من ينصرها ، وعلى هذا فالمراد بالنساء الأزواج ، أي أزواج الأموات .

ويجوز أن يكون فعل ( ترثوا ) مستعملا في حقيقته ومتعديا إلى الموروث فيفيد [ ص: 284 ] النهي عن أحوال كانت في الجاهلية : منها أن الأولياء يعضلون النساء ذوات المال من التزوج خشية أنهن إذا تزوجن يلدن فيرثهن أزواجهن وأولادهن ولم يكن للولي العاصب شيء من أموالهن ، وهن يرغبن أن يتزوجن ، ومنها أن الأزواج كانوا يكرهون أزواجهم ويأبون أن يطلقوهن رغبة في أن يمتن عندهم فيرثوهن ، فذلك إكراه لهن على البقاء على حالة الكراهية ، إذ لا ترضى المرأة بذلك مختارة ، وعلى هذا فالنساء مراد به جمع امرأة ، وقرأ الجمهور : ( كرها ) بفتح الكاف وقرأه حمزة ، والكسائي وخلف بضم الكاف وهما لغتان .

التالي السابق


الخدمات العلمية