الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا .

                          هاتان الآيتان هما أساس الحكومة الإسلامية ، ولو لم ينزل في القرآن غيرهما لكفتا المسلمين في ذلك إذا هم بنوا جميع الأحكام عليهما ، وقد ذكر لنزولهما أسبابا ، وصرحوا بأن [ ص: 137 ] السبب الخاص لا يخصص عموم الخطاب ، قال في لباب النقول : أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : " لما فتح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة دعا عثمان بن طلحة فلما أتاه قال : أرني المفتاح ـ أي مفتاح الكعبة ـ فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هات المفتاح يا عثمان ، فقال : هاك أمانة الله ، فقام ففتح الكعبة ، ثم خرج فطاف بالبيت ، ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح ، فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح ، ثم قال : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها حتى فرغ من الآية .

                          وأخرج شعبة في تفسيره عن حجاج ، عن ابن جريج ، قال : " نزلت هذه الآية في عثمان بن طلحة ، أخذ منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مفتاح الكعبة ، فدخل به البيت يوم الفتح فخرج وهو يتلو هذه الآية ، فدعا عثمان فناوله المفتاح " ، قال : وقال عمر بن الخطاب : " ما سمعته يتلوها قبل ذلك " ، قلت : ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة اهـ .

                          أقول : بل الظاهر أنها نزلت قبل فتح مكة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلاها يومئذ استشهادا ، وإن لم يتذكر عمر أنه سمعها قبل ذلك ، إن صحت الرواية وصح أن عمر قال ذلك ، فقد صح عنه أنه ذهل عند وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عما ورد في ذكر موته حتى قرأ أبو بكر : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ( 3 : 144 ) ، الآية فتذكر ، وذهل عن آية : وآتيتم إحداهن قنطارا ( 4 : 20 ) ، حتى ذكرته بها المرأة التي راجعته في مسألة تحديد المهور ـ كما تقدم في أوائل هذه السورة ـ وكل أحد عرضة للنسيان والذهول ، والرواية عن ابن عباس لا تصح وإن اعتمدها الجلال ، فقد ذكرنا من قبل أن المحدثين قالوا : إن أوهى طرق التفسير عن ابن عباس هي طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، قالوا : فإن انضم إليها مروان الصغير فهي سلسلة الكذب ، وأما رواية شعبة ، عن حجاج فإن كان حجاج هذا هو المصيصي الأعور فقد كان ثقة ولكنه تغير في آخر عمره ، وهو ممن روى عن شعبة ، وابن جريج ولم يذكروا أن شعبة روى عنه ولكن شعبة روى عن حجاج الأسلمي وهو مجهول كما قال أبو حاتم .

                          وفي الروايتين بحث من جهة المعنى أيضا ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى بمفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ، ومن كل أحد ، فلو أعطاه للعباس أو غيره لم يكن فاعلا إلا ما له الحق فيه ، ومن أعطاه إياه يكون هو أهله وأحق به ، وليس هذا من باب : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ( 33 : 6 ) ، بل لأن الكعبة من المصالح العامة ، وإنما كان يكون من هذا الباب لو كان المفتاح مفتاح بيت عثمان بن طلحة نفسه ونزع ملكه منه وأعطاه آخر ، بل الحكام الآن في جميع الممالك ينزعون ملك من يرون المصلحة العامة في نزع ملكه منه ، ولكنهم يعطونه ثمنه شاء أم أبى .

                          [ ص: 138 ] الأستاذ الإمام : بعد ما بين الله تعالى لنا من شأن أهل الكتاب ما بينه ـ حتى تفضيلهم المشركين في الهداية على المؤمنين بالله وحده ، وبجميع كتبه ورسله ـ أدبنا بهذا الأدب العالي ، وأمرنا بالأمانة العامة ، وهي الاعتراف بالحق سواء كان الحق حسيا أو معنويا فقال : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فالكلام متصل بما قبله بمناسبة قوية تجعل السياق كعقد من الجوهر متناسب اللآلئ ، فسواء صح ما ذكر من حكاية مفتاح الكعبة أو لم يصح ، فإن صحته لا تضر بالتئام السياق ولا بعموم الحكم ، إذ السبب الخاص لا ينافي عموم الحكم .

                          والأمانة حق عند المكلف يتعلق به حق غيره ، ويودعه لأجل أن يوصله إلى ذلك الغير كالمال والعلم ، سواء كان المودع عنده ذلك الحق قد تعاقد مع المودع على ذلك بعقد قولي خاص صرح فيه بأنه يجب على المودع عنده أن يؤدي كذا إلى فلان مثلا ، أم لم يكن كذلك ، فإن ما جرى عليه التعامل بين الناس في الأمور العامة هو بمثابة ما يتعاقد عليه الأفراد في الأمور الخاصة ، فالذي يتعلم العلم قد أودع أمانة وأخذ عليه العهد بالتعامل والعرف بأن يؤدي هذه الأمانة ويفيد الناس ويرشدهم بهذا العلم ، وقد أخذ الله العهد العام على الناس بهذا التعامل المتعارف بينهم شرعا وعرفا بنص قوله : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ( 3 : 187 ) ، ولذلك عد علماء أهل الكتاب خائنين بكتمان صفات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيجب على العالم أن يؤدي أمانة العلم إلى الناس ، كما يجب على من أودع المال أن يرده إلى صاحبه ، ويتوقف أداء أمانة العلم على تعرف الطرق التي توصل إلى ذلك ، فيجب أن تعرف هذه الطرق لأجل السير فيها ، وإعراض العلماء عن معرفة الطرق التي تتأدى بها هذه الأمانة بالفعل هو ابتعاد عن الواجب الذي أمروا به ، وإخفاء الحق بإخفاء وسائله هو عين الإضاعة للحق ، فإذا رأينا الجهل بالحق والخير فاشيا بين الناس واستبدلت به الشروع والبدع ، ورأينا أن العلماء لم يعلموهم ما يجب في ذلك فيمكننا أن نجزم بأن هؤلاء العلماء لا يؤدون الأمانة ، وهي ما استحفظوا عليه من كتاب الله ، ولا عذر لهم في ترك استبانة الطريق الموصل إلى ذلك بسهولة وقرب ، فهم خونة الناس وليسوا بالأمناء .

                          أقول : يعني رحمه الله تعالى أنه يجب على العلماء أن يعرفوا الطرق التي تؤدي إلى إيصال العلم إلى الناس وقبوله ، وهذه الطرق تختلف باختلاف الزمان والمكان كما تختلف الطرق التي تؤدى بها أمانة المال ، ففي هذا العصر تؤدى الأموال إلى أصحابها بطرق لم تكن معروفة في العصور السابقة ، منها التحويل على مصلحة البريد ، ومنها المصارف ومنها غير ذلك .

                          وكذلك توجد طرق لنشر العلم بين الناس أسهل من الطرق السابقة ، فمن أبى سلوكها لا يعذر بعدم تأديته لأمانة العلم النافع ، وأكثر العلماء المتأخرين يقولون : إنه لا يجب على العالم أن يتصدى لتعليم الناس ، وإنما يجب عليه أن يجيب إذا سئل ، وربما قيدوا هذا بما إذا فقد [ ص: 139 ] من يقوم مقامه في الإفتاء ، وإنما قال مثل هذا من قاله من المتقدمين في المسائل الخاصة التي يحتاج إليها عند وقوع الوقائع ، فأما ما لا بد منه ولا يسع الناس جهله من العقائد والواجبات وأحكام الحلال والحرام ، فلم يشترط أحد فيه هذا الشرط ; ولذلك اتفقوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يقيدوه بالاستفتاء ، والمجهول لا تتوجه النفوس إلى السؤال عنه ، أفيترك الجاهلون بالسنن العاملون بالبدع حتى يطرقوا أبواب العلماء في بيوتهم أو مدارسهم ، مع العلم بأنهم لا يفعلون ؟ !

                          ولا يخرج علماء الدين من تبعة الكتمان والخيانة في أمانة الله بتصديهم لتدريس كتب الفقه والعقائد ، فإن هذه الكتب لا تفهمها العامة ولا تجب عليها معرفتها ; لأنها وضعت للمنقطعين للعلم يستعينون بها على القضاء والإفتاء في المسائل التي لا يحتاج إليها كل الناس دائما ، ومنها ما تمر الأعصار ولا يقع ، بل منها ما يستحيل وقوعه ، فيجب على العلماء أن يتصدوا لتعليم الجمهور ما لا يسع أحدا منهم جهله وأن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر من أقرب الطرق وأسهلها ، وإنما يعرف ذلك بالتجربة والاختبار ، ولله در الشاعر الذي قال :


                          لو صح منك الهوى أرشدت للحيل

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية