الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 345 ] 530 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : من قال لأخيه : تعال أقامرك ، فليتصدق ، وما في حديث الأوزاعي زيادة على ذلك : فليتصدق بالقمار

3296 - قال أبو جعفر : قد روينا فيما تقدم منا في كتابنا هذا الحديث من حديث يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قال لصاحبه : تعال أقامرك ، فليتصدق .

ثم وجدناه من حديث الأوزاعي ، عن الزهري ، بهذا الإسناد : فليتصدق بالقمار .

[ ص: 346 ]

3297 - كما حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، قال : حدثنا علي بن بحر بن بري ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، عن الزهري ، قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال في حلفه : باللات والعزى ، فليقل : لا إله إلا الله ، ومن قال لصاحبه : تعال أقامرك ، فليتصدق بالقمار .

غير أنا وجدنا هذا الحديث من حديث داود بن رشيد ، عن الوليد ، عن الأوزاعي بإضافة هذه الكلمة إلى الأوزاعي .

3298 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، قال : حدثنا داود بن رشيد ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، عن الزهري ، قال : أخبرني حميد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه ، غير [ ص: 347 ] أنه قال : قال الأوزاعي : يتصدق بالقمار .

قال أبو جعفر : فلم نجد هذه الكلمة الزائدة في حديث الأوزاعي هذا على ما في حديث يونس من أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، أو من كلام الأوزاعي تفسيرا لمراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالصدقة عند ذلك ما هي ، ولم يكن الأوزاعي مع علمه وفضله يقول مثل ذلك تفسيرا لمراد النبي صلى الله عليه وسلم إياه بقوله : فليتصدق إلا من حيث ينطلق له أن يقوله إذ كان مثله لا يقال بالرأي ، ولا بالاستخراج ، ولا بالاستنباط .

فتأملنا معنى : فليتصدق بالقمار ، لنقف على المراد به ما هو إن شاء الله ، فوجدنا القمار حراما ، ووجدنا ما يصير إلى من يقامر من سببه حراما عليه ، واجبا عليه رده إلى من أخذه منه ، أو إلى من أعطاه إياه على ذلك القمار ، وكان المتقامران سبيلهما إذا حضرا لما يريدان من ذلك أن يكون كل واحد منهما يحضر شيئا من ماله إما أن يقمره وإما أن يقمر شيئا يضيفه إليه ، وكان وجه الصدقة التي أمر بها في ذلك هو الصدقة لما أخرجه من ذلك من ماله ليعصي الله عز وجل به ، فيصرفه في الصدقة به التي هي قربة إلى ربه عز وجل ، ليكون ذلك كفارة لما كان حاول أن يصرفه فيه مما قد حرمه عليه ، لا أنه أراد أن يتصدق بما يعود إليه من مال من قامره بما هو حرام عليه ، ومما حكمه حكم الغلول ، والله عز وجل لا يقبل صدقة من غلول ، كما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .

3299 - مما قد حدثنا يزيد بن سنان ، وإبراهيم بن مرزوق ، قالا : [ ص: 348 ] حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، قال : حدثنا زائدة بن قدامة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول .

3300 - وما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي مليح بن أسامة ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

[ ص: 349 ] فقال قائل : وما دليلك على ما ذكرت ؟ وإنما فيما رويت أن يتصدق بالقمار ، والقمار ما عاد إليه من مال غيره ، لا ما أخرجه من مال نفسه مما عسى أن يعود إلى غيره ممن يقامره بقماره إياه له .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن الأشياء قد تسمى بما قربت منه ، وإن لم تتحقق به ، ولم تدخل فيه ، ومن ذلك قول الله عز وجل : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف في سورة البقرة ، وفي سورة الطلاق : أو فارقوهن بمعروف ، وهن إذا بلغن أجلهن قد بن ممن طلقهن ، وانقطع أن يكون لهم عليهن رجعة ؛ لأنهن قد صرن أجنبيات ، وقد بين ذلك قوله عز وجل في الآية الأخرى من سورة البقرة : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، فكان في ذلك ما قد دل أن ما في الآية الأولى من بلوغ الأجل إنما أريد به قرب بلوغ الأجل ، لا حقيقة بلوغ الأجل .

ومن ذلك أن المسلمين قد سموا ابن إبراهيم صلى الله عليه وسلم : إما إسماعيل ، [ ص: 350 ] وإما إسحاق صلى الله عليهما : الذبيح لقربه من الذبح وإن لم يكن ذبح ، فمثل ذلك أيضا ما ذكرنا من القمار المراد به القرب من القمار [ ص: 351 ] لا حقيقة القمار ، ومثل هذا كثير في كلام العرب ، فأمر الذي قد سمح أن يكون ما أخرجه ليملكه عليه بقماره إياه له الذي هو حرام عليه برده إلى الصدقة التي هي لله عز وجل قربة ، وعسى أن يكون له كفارة ، مما كان حاوله من عصيان الله عز وجل ، ودخوله فيما حرمه عليه ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية