الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل ( وإذا أذن ولي الصبي للصبي في التجارة فهو في البيع والشراء كالعبد المأذون إذا كان يعقل البيع والشراء حتى ينفذ تصرفه ) وقال الشافعي : لا ينفذ ; لأن حجره لصباه فيبقى ببقائه ، ولأنه مولى عليه حتى يملك الولي [ ص: 311 ] التصرف عليه ويملك حجره فلا يكون واليا للمنافاة وصار كالطلاق والعتاق ، بخلاف الصوم والصلاة ; لأنه لا يقام بالولي ، وكذا الوصية على أصله فتحققت الضرورة إلى تنفيذه منه .

أما بالبيع والشراء فيتولاه الولي فلا ضرورة هاهنا . ولنا أن التصرف المشروع صدر من أهله في محله عن ولاية شرعية فوجب تنفيذه على ما عرف تقريره في الخلافيات . والصبا سبب الحجر لعدم الهداية لا لذاته ، وقد ثبتت نظرا إلى إذن الولي ، [ ص: 312 ] وبقاء ولايته لنظر الصبي لاستيفاء المصلحة بطريقين واحتمال تبدل الحال ، بخلاف الطلاق والعتاق ; لأنه ضار محض فلم يؤهل له . والنافع المحض كقبول الهبة والصدقة يؤهل له قبل الإذن ، والبيع والشراء دائر بين النفع والضرر فيجعل أهلا له بعد الإذن لا قبله ، لكن قبل الإذن يكون موقوفا منه على إجازة الولي لاحتمال وقوعه نظرا ، وصحة التصرف في نفسه ، وذكر الولي في الكتاب ينتظم الأب والجد عند عدمه والوصي والقاضي والوالي ، بخلاف صاحب الشرط ; لأنه ليس إليه تقليد القضاة ، [ ص: 313 ] والشرط أن يعقل كون البيع سالبا للملك جالبا للربح ، والتشبيه بالعبد المأذون له يفيد أن ما يثبت في العبد من الأحكام يثبت في حقه ; لأن الإذن فك الحجر والمأذون يتصرف بأهلية نفسه عبدا كان أو صبيا ، فلا يتقيد تصرفه بنوع دون نوع .

التالي السابق


( فصل )

لما فرغ من بيان أحكام إذن العبد في التجارة شرع في بيان أحكام إذن الصبي والمعتوه ، وقدم الأول لكثرة وقوعه ( قوله وإذا أذن ولي الصبي للصبي في التجارة فهو في البيع والشراء كالعبد المأذون إذا كان يعقل البيع والشراء حتى ينفذ تصرفه ) [ ص: 311 ] أقول : كان الظاهر أن يقول في جواب المسألة : فهو في التجارة كالعبد المأذون ليطابق ما قبله من قوله في التجارة ، وليعم غير البيع والشراء من سائر أسباب التجارات لنفوذ تصرفه في سائرها أيضا عندنا ، وكأنه قصد الاكتفاء بذكر البيع والشراء لكونهما من أصول أسباب التجارات ، إلا أنه آثر اللفظ الكثير على اللفظ القليل مع كون الثاني أعم وأظهر في إفادة تمام المراد .

وهذا ما في عبارة مختصر القدوري ، ثم بعد ذلك قصر المصنف من جهة أخرى حيث قصر في البداية على قوله إذا كان يعقل البيع وكان عبارة المختصر إذا كان يعقل البيع والشراء ، وأصر على ذلك في الهداية أيضا مع ظهور مزية ما في عبارة المختصر ; لأن تعقله البيع فقط غير كاف في كونه كالعبد المأذون نافذ التصرف في باب التجارة مطلقا ، بل لا بد من أن يقبل الشراء أيضا بأن يعرف أن البيع سالب للملك والشراء جالب له ، ويعرف الغبن اليسير من الغبن الفاحش كما صرحوا به ( قوله والصبا سبب الحجر لعدم الهداية لا لذاته ، وقد ثبتت نظرا إلى إذن الولي ) هذا جواب عن قول الشافعي ; لأن حجره لصباه فيبقى ببقائه .

تقريره أن الصبا سبب الحجر لعدم هداية الصبي في أمور التجارة لا لذاته فصار هو كالعبد في كون حجره لغيره ، فإذا أذن له الولي زال ذلك الغير ; لأنه يستدل به على ثبوت هدايته في أمور التجارة ، إذ لو لم يكن هاديا فيها لما أذن له [ ص: 312 ] الولي فينفذ تصرفه كما لو أذن المولى للعبد كذا في الشروح . أقول : يرد على ظاهر هذا الجواب أن يقال : لو كان الأمر كذلك لنفذ تصرف الصبي بدون إذن الولي إذا علم هدايته في أمور التجارة بدليل من الدلائل ، غير إذن الولي لحصول العلم إذ ذاك أيضا بزوال ذلك الغير الذي حجر الصبي بسببه وهو عدم الهداية ، مع أن المفهوم من الكتب عدم نفاذ تصرفه بغير إذن الولي أصلا فيما هو دائر بين النفع والضر كالبيع والشراء ونحوهما فتأمل .

( قوله وبقاء ولايته لنظر الصبي لاستيفاء المصلحة بطريقين واحتمال تبدل الحال ) قال صاحب العناية : وقوله وبقاء ولايته جواب عما يقال لو ثبت له الهداية بالإذن لم يبق الولي وليا .

وتقريره أن بقاء ولايته بعد ذلك لأمرين للنظر له ، فإن الصبا من أسباب المرحمة بالحديث ، وفي اعتبار كلامه في التصرف نفع محض لاستيفاء المصلحة بطريقين : أي بمباشرة وليه له ، وبمباشرة نفسه ، فكان مرحمة في حقه فوجب اعتباره ، ولاحتمال تبدل الحال فإن حال الصبي يحتمل أن يتبدل من الهداية إلى غيرها فأبقينا ولاية الولي ليتدارك ذلك ا هـ كلامه . أقول : في تقريره شيء . أما أولا فلأن قوله وفي اعتبار كلامه في التصرف نفع محض غير مسلم ; لأن الكلام في التصرف الدائر بين النفع والضر فإن تصرفه الذي هو نافع محض كقبول الهبة والصدقة ينفذ بغير إذن الولي أيضا .

وتصرفه الذي هو ضار محض كالطلاق والعتاق لا ينفذ بإذن الولي أيضا ، وإنما الذي يتوقف نفاذه على إذن الولي عندنا تصرفه الدائر بين النفع والضر كالبيع والشراء فكيف يكون في اعتبار كلامه في مثل ذلك التصرف نفع محض ؟ فالوجه أن يقال بدل قوله المذكور وفي اعتبار كلامه في التصرف [ ص: 313 ] نظر له . وأما ثانيا ; فلأن مقتضى تقريره المزبور أن يكون قول المصنف واحتمال تبدل الحال معطوفا على قوله لنظر الصبي كما لا يخفى على الناظر في مقدمات تقريره ، وليس كذلك فإنه معطوف على قوله لاستيفاء المصلحة بطريقين ، وداخل معه في حيز قوله لنظر الصبي ، إذ لا شك أن تدارك احتمال تبدل الحال أيضا نظر للصبي فلا وجه لجعله مقابلا له . ثم اعلم أن قول المصنف وبقاء ولايته إلخ يحتمل الوجهين : أحدهما أن يكون جوابا عن قول الشافعي ولأنه مولى عليه إلخ .

وثانيهما : أن يكون جوابا عن سؤال مقدر وهو أن يقال لو صار الصبي وليا للتصرف بإذن وليه لكان ينبغي أن لا يبقى وليه وليا في التصرف في ماله ، فصاحب النهاية ذكر كلا الوجهين ، وصاحب العناية اختار الثاني كما ترى ، وكثير من الشراح اختاروا الأول فعليك بالاختيار ثم الاختيار .

( قوله والتشبيه بالعبد المأذون له يفيد أن ما ثبت في العبد من الأحكام يثبت في حقه ) أي في حق الصبي أراد به قوله فهو في البيع والشراء كالعبد المأذون ، كذا في غاية البيان وغيرها . أقول : لقائل أن يقول : تشبيه الصبي بالعبد المأذون إنما يفيد ثبوت أحكام العبد عامة في حقه إن كان التشبيه على العموم ، أو على الإطلاق .

وأما إذا عين ما فيه المشابهة كما وقع في الكتاب حيث قال فهو في البيع والشراء كالعبد المأذون ، فإفادة المأذون التعميم ممنوعة جدا فليتأمل . وقال صاحب النهاية : فإن قلت : كيف يستقيم تعميم قوله إن ما ثبت في العبد من الأحكام يثبت في حق الصبي المأذون مع التخلف في بعضها وهو أن المولى محجور عن التصرف في مال العبد المأذون إذا كان عليه دين يحيط بماله والولي ليس بمحجور عن التصرف في مال الصبي المأذون وإن كان عليه دين يحيط بماله والرواية عن المبسوط . قلت : الجواب عنه من وجهين : أحدهما أن ما ذكرته من الحجر وعدمه فهو في انحجار المولى وعدم انحجار الولي في المال ، وما ذكره في الكتاب من التعميم في تصرف العبد في ماله وتصرف الصبي في ماله فلا يرد نقضا لاختلاف التصرفين . والثاني هو ما ذكره في المبسوط ، وإنما يملك الأب أو الوصي التصرف في مال الصبي سواء كان على الصبي دين أو لا ; لأن دين الحر في ذمته لا تعلق له بماله ، بخلاف دين العبد المأذون فإنه يتعلق بكسبه ويصير المولى من التصرف كأجنبي آخر إذا كان الدين مستغرقا ا هـ كلامه . واقتفى أثره صاحب العناية في ذكر ذاك السؤال ووجهي الجواب ولكن سلك مسلك الإجمال . أقول : الوجه الثاني لا يصلح جوابا عن السؤال المذكور ; لأن حاصل هذا الوجه بيان علة انحجار المولى عن التصرف في مال العبد المأذون إذا كان عليه دين يحيط بماله وعدم انحجار الولي عن التصرف في مال الصبي المأذون وإن كان عليه دين يحيط بماله ، وذلك لا يفيد استقامة التعليل في قول المصنف إن ما ثبت في العبد من الأحكام يثبت في حق الصبي المأذون بل يؤيد عدم استقامته كما لا يخفى . ومدار السؤال المذكور على التعميم [ ص: 314 ] المستفاد من كلام المصنف لا غير .

وقال بعض الفضلاء : لعل خلاصة الجواب الثاني منع دلالة الكلام على العموم . أقول : ليس هذا أيضا بسديد . أما أولا فلأن دلالة كلام المصنف وهو قوله إن ما يثبت في العبد من الأحكام يثبت في حقه على العموم ظاهرة لا تقبل المنع ; لأن كلمة " ما " من ألفاظ العموم على ما تقرر في علم الأصول وقد تأكد بيانها بقوله من الأحكام ، فإن الجمع المعرف باللام أيضا من ألفاظ العموم والاستغراق إذا لم يكن هناك معهود كما تقرر هذا أيضا في علم الأصول . وأما ثانيا فلأنه لا دلالة في الجواب الثاني أصلا على منع دلالة كلام المصنف على العموم ولا تعرض له فيه بوجه من الوجوه ، وإنما مضمونه مجرد بيان العلة في انحجار المولى عن التصرف في مال العبد وعدم انحجار الولي عن التصرف في مال الصبي فحمل ذلك الجواب على منع دلالة الكلام مما لا سبيل إليه أصلا




الخدمات العلمية