الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 159 ] فصل في اسمه تعالى "القيوم" [ ص: 160 ] [ ص: 161 ] فصل

في اسمه تعالى "القيوم"

وقد قرأ طائفة "القيام" و"القيم" ، وكلها مبالغات في القائم وزيادة . قال الله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ، أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت . فهو قائم بالقسط وهو العدل ، وقائم على كل نفس بما كسبت ، وقيامه بالقسط على كل نفس يستلزم قدرته ، فدل هذا الاسم على أنه قادر وأنه عادل .

وسنبين أن عدله يستلزم الإحسان ، وأن كل ما يفعله فهو إحسان للعباد ونعمة عليهم . ولهذا يقول عقيب ما يعدده من النعم على العباد : فبأي آلاء ربكما تكذبان ، وآلاؤه هي نعمه ، وهي متضمنة لقدرته ومشيئته ، كما هي مستلزمة لرحمته وحكمته .

وأيضا فلفظ "القيام" يقتضي شيئين : القوة والثبات والاستقرار ، ويقتضي العدل والاستقامة ، فالقائم ضد الواقع ، كما أنه ضد الزائل ، [ ص: 162 ] والمستقيم ضد المعوج المنحرف ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه" . ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وقال : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم .

ومنه تقويم السهم والصف ، وهو تعديله ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "أقيموا صفوفكم ، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" . وكان يقوم الصف كما يقوم القدح .

ومنه الصراط المستقيم والاستقامة ، وهذا من هذا ، كما قال تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم من طريقة أهل التوراة .

وما يهدي إليه القرآن أقوم مما يهدي إليه الكتاب الذي [قبله] ، وإن كان ذلك يهدي إلى الصراط المستقيم ، لكن القرآن يهدي للتي هي أقوم . ولهذا ذكر هذا بعد قوله : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ، ثم قال : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . [ ص: 163 ]

ولما كان القيام بالأمور بطريقة القرآن يقتضي شيئين : القوة والثبات ، مع العدل والاستقامة ، جاء الأمر بذلك في مثل قوله : كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ، و كونوا قوامين لله شهداء بالقسط .

وقوله : وأقيموا الشهادة لله يقتضي أنه يأتي بها تامة مستقيمة ، فإن الشاهد قد يضعف عن أدائها وقد يحرفها ، فإذا أقامها كان ذلك لقوته واستقامته .

وكذلك إقام الصلاة يقتضي إدامتها والمحافظة عليها باطنا وظاهرا ، وأن يأتي بها مستقيمة معتدلة . ولما كانت صلاة الخوف فيها نقص لأجل الجهاد قال : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ، فإن الرجل قد يصلي ولا يقيم الصلاة لنقص طمأنينتها والسكينة فيها ، فلا تكون صلاته ثابتة مستقرة ، أو لنقص خضوعه لله وإخلاصه له ، فلا تكون معتدلة ، فإن رأس العدل عبادة الله وحده لا شريك له ، كما أن رأس الظلم هو الشرك ، إذ كان الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، ولا أظلم ممن وضع العبادة في غير موضعها فعبد غير الله ، فعبادة الله أصل العدل والاستقامة . قال تعالى : قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين ، فأمر بإقامة الوجه له عند كل مسجد ، [ ص: 164 ] وهو التوحيد وتوجيه الوجه إليه سبحانه ، فإن توجيهه إلى غيره زيغ . وبالإخلاص يكون العبد قائما ، وبالشرك زائغا ، كما قال : فأقم وجهك للدين حنيفا ، وقال : فأقم وجهك للدين القيم .

وإقامته : توجيهه إلى الله وحده ، وهو أيضا إسلامه ، فإن إسلام الوجه لله يقتضي إخضاعه له وإخلاصه له .

وفي القرآن إقامة الوجه ، وفيه توجيهه لله وإسلامه لله ، وتوجيهه وإسلامه هو إقامته ، وهو ضد إزاغته . فلما كانت الصلاة تضمنت هذا وهذا ، وهو عبادته وحده وإخلاص الدين له وتوجيه الوجه إليه ، كما فيها هذا العدل ، فلا بد من هذا ولا بد من الطمأنينة فيها ، وهي إنما تكون مقامة بهذا ، وهذا هو الخضوع ، فإن الخشوع يجمع معنيين : أحدهما الذل والخضوع والتواضع ، والثاني السكون والثبات . ومنه قوله تعالى : خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ، وقوله : خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي ، وهو الانخفاض والسكون . ومنه خشوع الأرض ، وهو سكونها وانخفاضها ، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت بدل السكون ، وربت بدل الانخفاض .

وقال : كونوا قوامين بالقسط ، قوامين لله . و"القوام" [ ص: 165 ] هو القيام ، فإن "قيام" و"قيوم" أصله قيوام وقيووم ، ولكن اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما بالأخرى ، لأن الياء أخف من الواو . قال الفراء : وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفيعال ، ويقولون للصواغ : صياغ .

قلت : هذا إذا أرادوا الصفة ، وهي ثبات المعنى للموصوف ، عدلوا عن "فعال" إلى "فيعال" كما في سائر الصفات المعدولة ، فإن من هذا قلب المضعف حرف عينه ، والحروف المختلفة أبلغ من حرف واحد مشدد . وأما إذا أرادوا الفعل فهو كما قال تعالى : كونوا قوامين بالقسط ، ولم يقل "قيامين" .

وقد قرأ طائفة من السلف : "الحي القيام" ، ولم يقرأ أحد قط : "كونوا قيامين بالقسط" ، لأن المقصود أمرهم أن يقوموا بالقسط ، والأمر طلب فعل يحدثه المأمور . بخلاف الخبر عن الموصوف بأنه صياغ ، فإنه خبر عن صفة ثابتة له . ولهذا جاء في أسماء الله "القيام" ، ولم يجئ "القوام" ، قرأ عمر بن الخطاب وغير واحد "القيام" ، وقرأ طائفة "القيم" . قال ابن الأنباري : هي كذلك في مصحف ابن مسعود . ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين : "ولك الحمد ، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن" .

التالي السابق


الخدمات العلمية