الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          527 - مسألة : ويبتدئ الإمام - بعد الأذان وتمامه - بالخطبة فيخطب واقفا خطبتين يجلس بينهما جلسة ؟ وليست الخطبة فرضا ، فلو صلاها إمام دون خطبة صلاها ركعتين جهرا ولا بد

                                                                                                                                                                                          ونستحب له أن يخطبهما على أعلى المنبر مقبلا على الناس بوجهه ، يحمد الله تعالى ، ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم ويذكر الناس بالآخرة ، ويأمرهم بما يلزمهم في دينهم ؟ وما خطب به مما يقع عليه اسم خطبة أجزأه ، ولو خطب بسورة يقرؤها : فحسن

                                                                                                                                                                                          [ ص: 263 ] فإن كان لم يسلم على الناس إذ دخل - فليسلم عليهم إذا قام على المنبر ؟ روينا عن أبي بكر ، وعمر : أنهما كانا يسلمان إذا قعدا على المنبر ؟ - : حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا أحمد بن الحجاج ثنا أبو كامل الجحدري ثنا خالد بن الحارث ثنا عبيد الله هو ابن عمر - عن نافع عن ابن عمر قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما ثم يجلس ، ثم يقوم ، كما يفعلون اليوم } .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا عن عثمان ، ومعاوية ، أنهما كانا يخطبان جالسين .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : قال الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } فإنما لنا الائتساء بفعله صلى الله عليه وسلم وليس فعله فرضا ؟ فأما أبو حنيفة ، ومالك فقالا : الخطبة فرض لا تجزئ صلاة الجمعة إلا بها ، والوقوف في الخطبة فرض ، واحتجا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          ثم تناقضا فقالا : إن خطب جالسا أجزأه ، وإن خطب خطبة واحدة أجزأه ، وإن لم يخطب لم يجزه ، وقد صح عن جابر أنه قال " من أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب جالسا فقد كذب " .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : من الباطل أن يكون بعض فعله عليه السلام فرضا وبعضه غير فرض .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي : إن خطب خطبة واحدة لم تجزه الصلاة .

                                                                                                                                                                                          ثم تناقض فأجاز الجمعة لمن خطب قاعدا ، والقول عليه في ذلك كالقول على أبي حنيفة ، ومالك في إجازتهما الجمعة بخطبة واحدة ولا فرق ؟

                                                                                                                                                                                          وقال عطاء ، وطاوس ، ومجاهد : من لم يدرك الخطبة يوم الجمعة لم يصلها إلا [ ص: 264 ] أربعا ، لأن الخطبة أقيمت مقام الركعتين .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق الخشني : ثنا محمد بن المثنى ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي المكي قال : سمعت طاوسا ، وعطاء يقولان : من لم يدرك الخطبة صلى أربعا ومن طريق محمد بن المثنى : ثنا يحيى بن سعيد القطان عن أبي يونس الحسن بن يزيد سمعت مجاهدا يقول : إذا لم تدرك الخطبة يوم الجمعة فصل أربعا .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق عبد الرزاق عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب : أن عمر بن الخطاب قال : الخطبة موضع الركعتين ، فمن فاتته الخطبة صلى أربعا ؟ قال أبو محمد : الحنفيون ، والمالكيون يقولون : المرسل كالمسند وأقوى ، فيلزمهم الأخذ بقول عمر ههنا ، وإلا فقد تناقضوا ؟ قال أبو محمد : من احتج في إيجاب فرض الخطبة بأنها جعلت بدلا عن الركعتين لزمه أن يقول بقول هؤلاء ، وإلا فقد تناقض واحتج بعضهم في إيجاب الخطبة بقول الله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا الاحتجاج لا منفعة لهم فيه في تصويب قولهم ، وإنما فيه أنهم تركوه قائما ، وهكذا نقول ، وإنما هو رد على من قال : إنهم تركوه عليه السلام قاعدا ، وهذا لا يقوله أحد ، وليس في إنكار الله تعالى لتركهم لنبيه عليه السلام قائما - : إيجاب لفرض القيام في الخطبة ، ولا لفرض الخطبة ؟ فإن كان ذلك عندهم كما يقولون فيلزمهم أن من خطب قاعدا فلا جمعة له ولا لهم ، وهذا لا يقوله أحد منهم ، فظهر أن احتجاجهم بالآية عليهم ، وأنها مبطلة لأقوالهم في ذلك لو كانت على إيجاب القيام ، وليس فيها أثر بوجه من الوجوه على إيجاب الخطبة ، إنما فيها أن الخطبة تكون قياما فقط ؟ فإن ادعوا إجماعا تعجل ما رويناه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن البصري : من لم يخطب يوم الجمعة صلى ركعتين على كل حال . [ ص: 265 ]

                                                                                                                                                                                          وقد قاله أيضا ابن سيرين : وقد أقدم بعضهم - بجاري عادتهم في الكذب على الله تعالى - فقال : إن قول الله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } إنما مراده إلى الخطبة وجعل هذا حجة في إيجاب فرضها ؟ قال أبو محمد : ومن لهذا المقدم أن الله تعالى أراد بالذكر المذكور فيها الخطبة ؟ بل أول الآية وآخرها يكذبان ظنه الفاسد ; لأن الله تعالى إنما قال : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } .

                                                                                                                                                                                          ثم قال عز وجل : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا } .

                                                                                                                                                                                          فصح أن الله إنما افترض السعي إلى الصلاة إذا نودي لها ، وأمر إذا قضيت بالانتشار وذكره كثيرا .

                                                                                                                                                                                          فصح يقينا أن الذكر المأمور بالسعي له هو الصلاة ، وذكر الله تعالى فيها بالتكبير ، والتسبيح والتمجيد ، والقراءة ، والتشهد لا غير ذلك ؟ ولو كان ما قاله هذا الجاهل لكان من لم يدرك الخطبة ولا شيئا منها وأدرك الصلاة غير مؤد لما افترض الله تعالى عليه من السعي ، وهم لا يقولون هذا ، وقد قاله من هو خير منهم ، فلا يكذبون ثانية في دعوى الإجماع مموهين على الضعفاء - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : لم يصلها عليه السلام قط إلا بخطبة ؟ قلنا : ولا صلاها عليه السلام قط إلا بخطبتين قائما يجلس بينهما ، فاجعلوا كل ذلك فرضا لا تصح الجمعة إلا به ، ولا صلى عليه السلام قط إلا رفع يديه في التكبيرة الأولى ، فأبطلوا الصلاة بترك ذلك

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : ما وقع عليه اسم خطبة فاقتداء بظاهر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : تجزئ تكبيرة ، وهذا نقض منه لإيجابه الخطبة فرضا ، لأن التكبيرة لا تسمى خطبة ، ويقال لهم : إذا جاز هذا عندكم فلم لا أجزأت عن الخطبة تكبيرة الإحرام فهي ذكر ؟

                                                                                                                                                                                          [ ص: 266 ] وقال مالك - : الخطبة : كل كلام ذي بال ؟ قال أبو محمد : ليس هذا حدا للخطبة ، وهو يراها فرضا ، ومن أوجب فرضا فواجب عليه تحديده ، حتى يعلمه متبعوه علما لا إشكال فيه ، وإلا فقد جهلوا فرضهم وأما خطبتها على أعلى المنبر فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صحت بذلك الآثار المتواترة وكان يلزمهم أن يجعلوا هذا أيضا فرضا ، لأنه مذ عمل المنبر لم يخطب النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة إلا عليه ؟ وأما قولنا : إن خطب بسورة يقرؤها : فحسن .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق مسلم حدثني محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن عبد الله بن محمد بن معاوية عن ابنة لحارثة بن النعمان قالت " ما حفظت ( ق ) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل جمعة ، وكان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا " .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية