الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذا (ومن باب الإشارة) إن في خلق السماوات والأرض أي العالم العلوي والعالم السفلي واختلاف الليل والنهار الظلمة والنور لآيات لأولي الألباب وهم الناظرون إلى الخلق بعين الحق الذين يذكرون الله قياما في مقام الروح بالمشاهدة وقعودا في محل القلب بالمكاشفة وعلى جنوبهم أي تقلباتهم في مكامن النفس بالمجاهدة ، وقال بعضهم : الذين يذكرون الله قياما أي قائمين باتباع أوامره وقعودا أي قاعدين عن زواجره ونواهيه وعلى جنوبهم أي ومجتنبين مطالعات المخالفات بحال ويتفكرون بألبابهم الخالصة عن شوائب الوهم في خلق السماوات والأرض وذلك التفكر على معنيين ؛ الأول طلب غيبة القلوب في الغيوب التي هي كنوز أنوار الصفات لإدراك أنوار القدرة التي تبلغ الشاهد إلى المشهود ، والثاني جولان القلوب بنعت التفكر [ ص: 177 ] في إبداع الملك طلبا لمشاهدة الملك في الملك فإذا شاهدوا قالوا ربنا ما خلقت هذا باطلا بل هو مرايا لأسمائك ومظاهر لصفاتك ، ويفصح بالمقصود قول لبيد :


                                                                                                                                                                                                                                      ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل



                                                                                                                                                                                                                                      سبحانك أي تنزيها لك من أن يكون في الوجود سواك فقنا عذاب النار وهي نار الاحتجاب بالأكوان عن رؤية المكون ربنا إنك من تدخل النار وتحجبه عن الرؤية فقد أخزيته وأذللته بالبعد عنك وما للظالمين الذين أشركوا ما لا وجود له في العير ولا النفير من أنصار لاستيلاء التجلي القهري عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ربنا إننا سمعنا بأسماع قلوبنا مناديا من أسرارنا التي هي شاطئ وادي الروح الأيمن ينادي للإيمان العياني أن آمنوا بربكم فآمنا أي شاهدوا ربكم فشاهدنا ، أو إننا سمعنا في المقام الأول مناديا ينادي للإيمان والمراد به هو الله تعالى حين خاطب الأرواح في عالم الذر بقوله سبحانه : ألست بربكم فإن ذلك دعاء لهم إلى الإيمان فآمنا يعنون قولهم : (بلى) حين شاهدوه هناك سبحانه ربنا فاغفر لنا ذنوبنا أي ذنوب صفاتنا بصفاتك وكفر عنا سيئات أفعالنا برؤية أفعالك وتوفنا عن ذواتنا بالموت الاختياري مع الأبرار وهم القائمون على حد التفريد والتوحيد ربنا وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك بقولك : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ولا تخزنا يوم القيامة بأن تحجبنا بنعمتك عنك إنك لا تخلف الميعاد فاستجاب لهم ربهم لكمال رحمته أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر القلب وعمله مثل الإخلاص واليقين أو أنثى النفس وعملها إذا تركت المجاهدات والطاعات القالبية بعضكم من بعض إذ يجمعكم أصل واحد وهو الروح الإنسانية فالذين هاجروا من غير الله تعالى إلى الله عز وجل وأخرجوا من ديارهم وهي مألوفات أنفسهم وأوذوا في سبيلي بما قاسوا من المنكرين ، وعن بعض العارفين أن القوم إذا لم يذوقوا مرارة إيذاء المنكرين لم يفوزوا بحلاوة كأس القرب من الله تعالى ، ولهذا قال الجنيد - قدس سره - : جزى الله تعالى إخواننا عنا خيرا ردونا بجفائهم إلى الله تعالى ، وقاتلوا أنفسهم في وهي أعدى أعدائهم ، وقتلوا بسيف الفناء لأكفرن عنهم سيئاتهم الصغائر والكبائر من بقايا صفاتهم وذواتهم ولأدخلنهم جنات ثلاث وهي جنة الأفعال ، وجنة الصفات ، وجنة الذات تجري من تحتها الأنهار أنهار العلوم والتجليات ثوابا من عند الله الجامع لجميع الصفات والله عنده حسن الثواب فلا يكون بيد غيره ثواب أصلا .

                                                                                                                                                                                                                                      لا يغرنك تقلب الذين كفروا أي حجبوا عن التوحيد في البلاد في المقامات الدنيوية والأحوال متاع قليل لسرعة زواله وعدم نفعه ثم مأواهم جهنم الحرمان وبئس المهاد الذي اختاروه بحسب استعدادهم .

                                                                                                                                                                                                                                      لكن الذين اتقوا ربهم بأن تجردوا كمال التجرد لهم جنات ثلاث عوض ذلك نزلا من عند الله معدا لهم وما عند الله من نعم المشاهدة ولطائف القربة وحلاوة الوصلة خير للأبرار وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ويحقق التوحيد الذاتي وما أنزل إليكم من علم التوحيد والاستقامة وما أنزل إليهم من علم المبدأ والمعاد ونيل الدرجات خاشعين لله للتجلي الذاتي ، وما تجلى الله تعالى لشيء إلا خضع له لا يشترون بآيات الله تعالى وهي تجليات صفاته ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم وهي تلك الجنات إن الله سريع الحساب فيوصل إليهم أجرهم بلا إبطاء .

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا اصبروا عن المعاصي وصابروا على الطاعات ورابطوا الأرواح بالمشاهدة واتقوا الله من مشاهدة الأغيار لعلكم تفلحون بالتجرد عن همومكم وخطراتكم ، أو اصبروا في مقام النفس بالمجاهدة وصابروا في مقام القلب مع التجليات ورابطوا [ ص: 178 ] في مقام الروح ذواتكم حتى لا تعتريكم فترة أو غفلة واتقوا الله عن المخالفة والإعراض والجفاء لعلكم تفوزون بالفلاح الحقيقي ، نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفى من امتثال هذه الأوامر وما يترتب عليها بمنه وكرمه .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الآيات العشر كان يقرؤها صلى الله تعالى عليه وسلم كل ليلة ، كما أخرج ذلك ابن السني وأبو نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الدارمي عن عثمان قال : من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب الله تعالى له قيام ليلة ، وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا : من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله تعالى عليه وملائكته حتى تجب الشمس . وخبر - من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية أمانا على جسر جهنم - موضوع مختلق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد عابوا على من أورده من المفسرين ، نسأل الله تعالى أن يعصمنا عن الزلل ويحفظنا من الخطأ والخطل ، إنه جواد كريم رءوف رحيم ، وليكن هذا خاتمة ما أمليته من تفسير الفاتحة والزهراوين ، وأنا أرغب إلى الله تعالى بالإخلاص أن يوصلني إلى تفسير المعوذتين ، وهو الجلد الأول من روح المعاني ويتلوه إن شاء الله تعالى الجلد الثاني وكان الفراغ منه في غرة محرم الحرام سنة 1254 ألف ومائتين وأربعة وخمسين ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين . آمين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية