الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 374 ] 535 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي ادعى قوم أنه شعر ، ونفى آخرون أن يكون كذلك

3319 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ( ح ) وحدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا شريك بن عبد الله ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : أكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من [ ص: 375 ] الشعر ؟ فقالت : نعم ، من شعر ابن رواحة ، وربما قال هذا البيت :

ويأتيك بالأخبار من لم تزود .



[ ص: 376 ]

3320 - وحدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا علي بن حجر ، قال : أخبرنا شريك ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قيل لها : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان يتمثل بشعر ابن رواحة : [ ص: 377 ]

ويأتيك بالأخبار من لم تزود .



3321 - وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا جعفر بن عون المخزومي ، قال : حدثنا الأجلح ، عن أبي الزبير ، عن ابن عباس ، قال : أنكحت عائشة ذات قرابة لها رجلا من الأنصار ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أهديتم الفتاة ؟ قالوا : نعم ، قال : أرسلتم معها من يغني ؟ قالت : لا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الأنصار قوم فيهم غزل ، فهلا بعثتم معها من يقول :

أتيناكم أتيناكم     وحيونا نحييكم .



[ ص: 378 ]

3322 - حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرنا أبو إسحاق أن رجلا من بني قيس قال للبراء وهو يسمع : أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ قال البراء : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر ، إن هوازن كانوا قوما رماة ، وإنا لما حملنا على القوم انهزموا ، وإن القوم أقبلوا [ ص: 379 ] على القتال ، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء ، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها وهو يقول :


أنا النبي لا كذب     أنا ابن عبد المطلب .



3323 - حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، قال : أخبرنا زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، قال :

قال رجل للبراء : يا أبا عمارة وليتم يوم حنين ؟ قال : لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنا لقينا قوما رماة ما يسقط لهم سهم جمع هوازن فرشقونا رشقا ما يكادون يخطئون ، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به ، فنزل فاستنصر وقال :


أنا النبي لا كذب     أنا ابن عبد المطلب

[ ص: 380 ] قال : ثم صفهم ، أو قال : صفنا
.

3324 - وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، قال : حدثنا حميد الطويل ، عن أنس ، قال : خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم في غداة باردة والمهاجرون والأنصار يحفرون الخندق بأيديهم ، فقال :


اللهم إن الخير خير الآخره     فاغفر للأنصار والمهاجره

فأجابوه :

نحن الذين بايعوا محمدا     على الجهاد ما بقينا أبدا .



[ ص: 381 ]

3325 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :


والله لولا الله ما اهتدينا     فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا     إن الألى قد بغوا علينا .



3326 - وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا شبابة بن سوار ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، قال : سمعت البراء بن عازب يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم أحد حتى وارى التراب شعر صدره وهو يرتجز بكلمة عبد الله بن رواحة يقول : [ ص: 382 ]

اللهم لولا أنت ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا     وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا     وإن أرادوا فتنة أبينا



قال : يمد النبي صلى الله عليه وسلم بها صوته .


3327 - وحدثنا ابن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ابن أبي ليلى ، عن البراء مثل حديث أبي إسحاق ، عن البراء غير أنه قال :

إذا أرادوا فتنة أبينا

قالها مرارا .

3328 - وحدثنا أبو بشر الرقي ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يقول ، ثم ذكر مثله ، غير أنه لم يقل : يمد بها صوته ، وغير أنه لم يقل : [ ص: 383 ] يقولها مرارا .

3329 - وحدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :


ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكاد ابن أبي الصلت يسلم .


3330 - وحدثنا عبد الغني بن أبي عقيل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس : سمع جندبا يقول : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فنكبت إصبعه ، فقال :


هل أنت إلا إصبع دميت     وفي سبيل الله ما لقيت .



[ ص: 384 ]

3331 - وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأسود بن قيس ، عن جندب بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي ، فأصاب إصبعه حجر ، ثم ذكر بقية الحديث .

قال أبو جعفر : فأنكر منكر هذه الآثار كلها ، ودفع أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال شيئا مما ذكر عنه فيها ، وقال : في كتاب الله ما قد دفع ذلك وهو قوله عز وجل : وما علمناه الشعر وما ينبغي له .

قال أبو جعفر : وكانت حجتنا عليه بتوفيق الله وعونه : أن الذي تلاه علينا من كتاب الله عز وجل لا يدفع شيئا مما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآثار ؛ لأن الذي تلاه علينا من كتاب الله عز وجل إنما هو إعلام الله عز وجل خلقه أنه ما علم نبيه صلى الله عليه وسلم الشعر ردا على المشركين في قولهم له : بل افتراه بل هو شاعر ، فأعلم الله عز وجل خلقه أنه بخلاف ما قالوا ثم أتبع ذلك بقوله : وما ينبغي له إذ كانت المنزلة التي أنزله إياها مع النبوة التي آتاه [ ص: 385 ] إياها المنزلة التي لم ينزلها أحدا من خلقه سواه ، وكان من علمه عز وجل الشعر من خلقه قد عرفه الناس ، وعلموا أنه الذي يشعر ويقصد فيمدح بذلك قوما ويهجو به آخرين ، ويصف به ما يميل إليه قلبه وتدعوه إليه نفسه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ذلك ، ثم دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه ما أضافوه إليه .

3332 - كما قد حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل الحفري ، قال : حدثنا عيسى بن عبد الرحمن ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إن فلانا ابن فلان هجاني ، وهو يعلم أني لست بشاعر فأهجوه ، فالعنه عدد ما هجاني ، أو مكان ما هجاني .

قال : ثم أبان الله على ألسنتهم أن الذي كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن كما قالوا : إنه شاعر يتكلم بالشعر كما يتكلم به أهله ، وإنهم حملوه على الشعر فلم يلتئم على لسان أحد أنه شعر .

3333 - وكما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو داود [ ص: 386 ] الطيالسي ، قال : حدثنا سليمان بن المغيرة 3334 - وكما حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا سليمان بن المغيرة ، قال : أخبرنا حميد بن هلال العدوي ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ، قال : قال لي أخي أنيس : إني منطلق إلى مكة ، فاكفني حتى آتيك ، فانطلق ، فراث علي ، فقلت : ما حبسك ؟ فقال : لقيت بمكة رجلا على دينك يزعم أن الله عز وجل أرسله ، قلت : فما يقول فيه الناس ؟ قال : يقولون : شاعر ، ويقولون : كاهن ، ولقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر ، فما يلتئم على لسان أحد أنه شعر ، قال أبو ذر : يا ابن أخي ( وكان أنيس أحد الشعراء ) فوالله إنه لصادق ، وإنهم لكاذبون .

قال أبو جعفر : وكان في الشعر حكم ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من الشعر حكمة ، وسنذكر ذلك فيما بعد من كتابنا هذا في موضع هو أولى به من هذا الموضع إن شاء الله ، فكان ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد حكي عنه في هذه الآثار كلامه به هو من الحكم التي [ ص: 387 ] في الشعر ، فتكلم به على أنه حكمة ، والله يجري الحكمة على لسانه لا أنه شعر أراده مما لا حكمة فيه .

ومما يدل على ذلك أنه لم يأت منه إلا بما فيه حاجته منه من هذا الجنس لا بما سواه وقد يتكلم الرجل بالكلام الموزون مما لو شاء أو غيره أن يبني عليه ما يكون شعرا فعل ، وليس بشعر ، ولا قائله شاعر ، ونحن نجد في طباع بني آدم الذين ليسوا من أهل الصناعات بعمل الألسن كالفقه وما أشبهه ، فيحكي منه شيئا كما يحكيه الفقهاء ، فلا يكون بحكايته إياه فقيها ، فمثل ذلك من يحكي بيتا من الشعر ، أو ما دون البيت على وزن الشعر لا يكون به شاعرا ، ولقد زعم الخليل بن أحمد - وموضعه من العربية موضعه ، لا سيما من الشعر ومن وزنه ، ومن تقطيعه ، ومن ذكر أنواعه - أن الأراجيز ليست بشعر ، وأنها كلام من الكلام الذي يتكلم به الناس على وزن الشعر هو الذي يتصرع وليس بشعر .

وفيما ذكرنا ما قد وضح به جهل هذا الجاهل ونفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس منتفيا عنه ؛ لأنه ليس بمخالف لما في الآية التي تلاها ، ولأن ما تكلم به في الآثار التي رويناها إنما كان بالحكمة التي فيها أو بشيء علق بلسانه من الشعر فنطق به لم يكن به شاعرا ولا داخلا في المعنى الذي نفاه الله عنه ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية