الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      4- سورة النساء .

                                                                                                                                                                                                                                      مدنية على الصحيح ، وزعم النحاس أنها مكية مستندا إلى أن قوله تعالى : إن الله يأمركم الآية نزلت بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة ، وتعقبه العلامة السيوطي بأن ذلك مستند واه لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات بمكة من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني ، ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه ، ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده صلى الله تعالى عليه وسلم ، وبناؤه عليها صلى الله تعالى عليه وسلم كان بعد الهجرة اتفاقا ، وقيل : إنها نزلت عند الهجرة ، وعدة آياتها عند الشاميين مائة وسبع وسبعون ، وعند الكوفيين ست وسبعون ، وعند الباقين خمس وسبعون ، والمختلف فيه منها آيتان : إحداهما أن تضلوا السبيل وثانيتهما فيعذبهم عذابا أليما فالكوفيون يثبتون الأولى آية فقط ، والشاميون يثبتون الثانية أيضا ، والباقون يقولون هما بعضا آية ، ووجه مناسبتها لآل عمران أمور منها أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى ، وافتتحت هذه السورة به ، وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور ، وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر تشابه الأطراف ، وقوم يسمونه بالتسبيغ ، وذلك كقول ليلى الأخيلية :


                                                                                                                                                                                                                                      إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها     شفاها من الداء العضال الذي بها
                                                                                                                                                                                                                                      غلام إذا هز القناة رواها     رواها فأرواها بشرب سجالها
                                                                                                                                                                                                                                      دماء رجال حيث نال حشاها



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 179 ] ومنها أن في آل عمران ذكر قصة أحد مستوفاة ، وفي هذه السورة ذكر ذيلها ، وهو قوله تعالى : فما لكم في المنافقين فئتين فإنه نزل فيما يتعلق بتلك الغزوة على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى مرويا عن البخاري ومسلم وغيرهما . ومنها أن في آل عمران ذكر الغزوة التي بعد أحد كما أشرنا إليه في قوله تعالى : الذين استجابوا لله والرسول إلخ ، وأشير إليها ههنا بقوله سبحانه : ولا تهنوا في ابتغاء القوم الآية ، وبهذين الوجهين يعرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها كما في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل لما ذكر هناك وتابع فكان الأنسب فيه التأخير ، ومن أمعن نظره وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك .

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الناس خطاب يعم المكلفين من لدن نزل إلى يوم القيامة على ما مر تحقيقه ، وفي تناول نحو هذه الصيغة للعبيد شرعا حتى يعمهم الحكم خلاف ، فذهب الأكثرون إلى التناول لأن العبد من الناس مثلا فيدخل في الخطاب العام له قطعا ، وكونه عبدا لا يصلح مانعا لذلك ، وذهب البعض إلى عدم التناول قالوا : لأنه قد ثبت بالإجماع صرف منافع العبد إلى سيده ، فلو كلف بالخطاب لكان صرفا لمنافعه إلى غير سيده وذلك تناقض فيتبع الإجماع ويترك الظاهر ، وأيضا خرج العبد عن الخطاب بالجهاد والجمعة والعمرة والحج والتبرعات والأقارير ونحوها ، ولو كان الخطاب متناولا له للعموم لزم التخصيص ، والأصل عدمه ، والجواب عن الأول أنا لا نسلم صرف منافعه إلى سيده عموما بل قد يستثنى من ذلك وقت تضايق العبادات حتى لو أمره السيد في آخر وقت الظهر ولو أطاعه لفاتته الصلاة وجبت عليه الصلاة ، وعدم صرف منفعته في ذلك الوقت إلى السيد ، وإذا ثبت هذا فالتعبد بالعبادة ليس مناقضا لقولهم : بصرف المنافع للسيد ، وعن الثاني بأن خروجه بدليل اقتضى خروجه وذلك كخروج المريض والمسافر والحائض عن العمومات الدالة على وجوب الصوم والصلاة والجهاد ، وذلك لا يدل على عدم تناولها اتفاقا ، غايته أنه خلاف الأصل ارتكب لدليل وهو جائز ثم الصحيح أن الأمم الدارجة قبل نزول هذا الخطاب لا حظ لها فيه لاختصاص الأوامر والنواهي بمن يتصور منه الامتثال ، وأنى لهم به وهم تحت أطباق الثرى لا يقومون حتى ينفخ في الصور .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز بعضهم كون الخطاب عاما بحيث يندرجون فيه ، ثم قال : ولا يبعد أن يكون الأمر الآتي عاما لهم أيضا بالنسبة إلى الكلام القديم القائم بذاته تعالى ، وإن كان كونه عربيا عارضا بالنسبة إلى هذه الأمة ، وفيه نظر لأن المنظور إليه إنما هو أحكام القرآن بعد النزول وإلا لكان النداء وجميع ما فيه من خطاب المشافهة مجازات ، ولا قائل به فتأمل ، وعلى العلات لفظ (الناس) يشمل الذكور والإناث بلا نزاع ، وفي شمول نحو قوله تعالى : اتقوا ربكم خلاف ، والأكثرون على أن الإناث لا يدخلن في مثل هذه الصيغة ظاهرا خلافا للحنابلة ، استدل الأولون بأنه قد روي عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله إن النساء قلن : ما نرى الله تعالى ذكر إلا الرجال ، فأنزل ذكرهن ، فنفت ذكرهن مطلقا ولو كن داخلات لما صدق نفيهن ولم يجز تقريره عليه الصلاة والسلام للنفي ، وبأنه قد أجمع أرباب العربية على أن نحو هذه الصيغة جمع مذكر ، وأنه لتضعيف المفرد والمفرد مذكر ، وبأن نظير هذه الصيغة المسلمون ولو كان مدلول المسلمات داخلا فيه لما حسن العطف في قوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات إلا باعتبار التأكيد ، والتأسيس خير من التأكيد ، وقال الآخرون : المعروف من أهل اللسان تغليبهم [ ص: 180 ] المذكر على المؤنث عند اجتماعهما باتفاق ، وأيضا لو لم تدخل الإناث في ذلك لما شاركن في الأحكام لثبوت أكثرها بمثل هذه الصيغة ، واللازم منتف بالاتفاق كما في أحكام الصلاة والصيام والزكاة ، وأيضا لو أوصى لرجال ونساء بمائة درهم ثم قال : أوصيت لهم بكذا دخلت النساء بغير قرينة ، وهو معنى الحقيقة فيكون حقيقة في الرجال والنساء ظاهرا فيهما وهو المطلوب ، وأجيب أما عن الأول فبأنه إنما يدل على أن الإطلاق صحيح إذا قصد الجميع ، والجمهور يقولون به ، لكنه يكون مجازا ولا يلزم أن يكون ظاهرا وفيه النزاع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما عن الثاني فبمنع الملازمة ، نعم يلزم أن لا يشاركهن في الأحكام بمثل هذه الصيغة ، وما المانع أن يشاركن بدليل خارج ؟ والأمر كذلك ، ولذلك لم يدخلن في الجهاد والجمعة مثلا لعدم الدليل الخارجي هناك ، وأما عن الثالث فبمنع المبادرة ثمة بلا قرينة ، فإن الوصية المتقدمة قرينة دالة على الإرادة ، فالحق عدم دخول الإناث ظاهرا ، نعم الأولى هنا القول بدخولهن باعتبار التغليب ، وزعم بعضهم أن لا تغليب بل الأمر للرجال فقط كما يقتضيه ظاهر الصيغة ، ودخول الإناث في الأمر بالتقوى للدليل الخارجي ، ولا يخفى أن هذا يستدعي تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده ؛ لأن إبقاءه حينئذ على عمومه مما يأباه الذوق السليم ، والمأمور به إما الاتقاء بحيث يشمل ما كان باجتناب الكفر والمعاصي وسائر القبائح ، ويتناول رعاية حقوق الناس كما يتناول رعاية حقوق الله تعالى

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الاتقاء في الإخلال بما يجب حفظه من الحقوق فيما بين العباد، وهذا المعنى مطابق لما في السورة من رعاية حال الأيتام وصلة الأرحام والعدل في النكاح والإرث ونحو ذلك بالخصوص ، بخلاف الأول فإنه إنما يطابقها من حيث العموم ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من تأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال ، وكذا في وصف الرب بقوله سبحانه : الذي خلقكم من نفس واحدة لأن الاستعمال جار على أن الوصف الذي علق به الحكم علة موجبة له، أو باعثة عليه، داعية إليه، ولا يخفى أن ما هنا كذلك لأن ما ذكر يدل على القدرة العظيمة أو النعمة الجسيمة ، ولا شك أن الأول يوجب التقوى مطلقا حذرا عن العقاب العظيم، وأن الثاني يدعو إليها وفاء بالشكر الواجب ، وإيجاب الخلق من أصل واحد للاتقاء على الاحتمال الثاني ظاهر جدا، وفي الوصف المذكور تنبيه على أن المخاطبين عالمون بما ذكر مما يستدعي التحلي بالتقوى ، وفيه كمال توبيخ لمن يفوته ذلك، والمراد من النفس الواحدة آدم عليه السلام، والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين ومن وافقهم أنه ليس سوى آدم واحد - وهو أبو البشر – وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم، بين كل آدم وآدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق أبونا آدم - عليه السلام ، وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال : لعلك ترى أن الله تعالى لم يخلق بشرا غيركم، بلى، والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين ، وقال الميثم في شرحه الكبير على النهج ونقل عن محمد بن علي الباقر أنه قال : [ ص: 181 ] قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم، أو أكثر. وذكر الشيخ الأكبر - قدس سره - في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره. وفي كتاب الخصائص ما يكاد يفهم منه التعدد أيضا الآن، حيث روي فيه عن الصادق أنه قال : إن لله تعالى اثني عشر ألف عالم، كل عالم منهم أكبر من سبع سموات وسبع أرضين، ما يرى عالم منهم أن لله عز وجل عالما غيرهم ، وأنى للحجة عليهم، ولعل هذا وأمثاله من أرض السمسمة وجابرسا وجابلقا، إن صح محمول على عالم المثال لا على هذا العالم الذي نحن فيه، وحمل تعدد آدم في ذلك العالم أيضا غير بعيد، وأما القول بظواهر هذه الأخبار فمما لا يراه أهل السنة والجماعة بل قد صرح زين العرب بكفر من يعتقد التعدد، نعم، إن آدمنا هذا عليه السلام مسبوق بخلق آخرين كالملائكة والجن وكثير من الحيوانات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى لا بخلق أمثاله وهو حادث نوعا وشخصا خلافا لبعض الفلاسفة في زعمهم قدم نوع الإنسان، وذهب الكثير منا إلى أنه منذ كان إلى زمن البعثة ستة آلاف سنة، وأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ورووا أخبارا كثيرة في ذلك، والحق عندي أنه كان بعد أن لم يكن ولا يكون بعد أن كان، وأما أنه متى كان ومتى لا يكون فمما لا يعلمه إلا الله تعالى، والأخبار مضطربة في هذا الباب فلا يكاد يعول عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول بأن النفس الكلي يجلس لفصل القضاء بين الأنفس الجزئية في كل سبعة آلاف سنة مرة، وأن قيام الساعة بعد تمام ألف البعثة محمول على ذلك فمما لا أرتضيه دينا ولا أختاره يقينا، والخطاب في (ربكم) و (خلقكم) للمأمورين وتعميمه بحيث يشمل الأمم السالفة مع بقاء ما تقدم من الخطاب غير شامل بناء على أن شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل أتم في تأكيد الأمر السابق مع أن فيه تفكيكا للنظم مستغنيا عنه لأن خلقه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه السلام حيث كانوا بواسطة ما بينه وبينهم من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمنا لحق الوسائط جميعا ، وكذا التعرض لربوبيته تعالى لهم متضمنا لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد أردف الكلام بقوله تعالى شأنه : وخلق منها زوجها وهو عطف على ( خلقكم ) داخل معه في حيز الصلة ، وأعيد الفعل لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت لأن الأول بطريق التفريع من الأصل والثاني بطريق الإنشاء من المادة فإن المراد من الزوج حواء وهي قد خلقت من ضلع آدم - عليه السلام - الأيسر كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره ، وروى الشيخان : استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء من الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج . وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع؛ لأنه سبحانه قادر على خلقها من التراب فأي فائدة في خلقها من ذلك وزعم أن معنى منها من جنسها، والآية على حد قوله تعالى ( جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) ووافقه على ذلك بعضهم مدعيا أن القول بما ذكر يجر إلى القول بأن آدم عليه السلام كان ينكح بعضه بعضا، وفيه من الاستهجان ما لا يخفى، وزعم بعض أن حواء كانت حورية خلقت مما خلق منه الحور بعد أن أسكن آدم الجنة، وكلا القولين باطل ، أما الثاني فلأنه ليس في الآيات ولا الأحاديث ما يتوهم منه الإشارة إليه أصلا فضلا عن التصريح به، ومع هذا يقال عليه : إن الحور خلقن من زعفران الجنة - كما ورد في بعض الآثار- فإن كانت حواء مخلوقة مما خلقن منه - كما هو نص كلام الزاعم - فبينها وبين آدم عليه السلام المخلوق من تراب الدنيا بعد كلي يكاد يكون افتراقا في الجنسية التي ربما توهمها الآية، ويستدعي [ ص: 182 ] بعد وقوع التناسل بينهما في هذه النشأة، وإن كانت مخلوقة مما خلق منه آدم فهو مع كونه خلاف نص كلامه يرد عليه إن هذا قول بما قاله أبو مسلم وإلا يكنه فهو قريب منه، وأما الأول فلأنه لو كان الأمر كما ذكر فيه لكان الناس مخلوقين من نفسين، لا من نفس واحدة وهو خلاف النص، وأيضا هو خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا يرد على الثاني أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول بأنه أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب يقال عليه : إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيا من حي لا على سبيل التوالد - كما أنه قادر على أن يخلق حيا من جماد كذلك - ولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة لخلق الجميع من التراب بلا واسطة؛ لأنه سبحانه كما أنه قادر على خلق آدم من التراب هو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضا فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه السلام ، فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب، والقول : بأن ذلك يجر إلى ما فيه استهجان لا يخفى ما فيه لأن هذا التشخص الخاص الحاصل لذلك الجزء بحيث لم يبق من تشخصه الأصلي شيء ظاهر يدفع الاستهجان الذي لا مقتضى له إلا الوهم الخالص لا سيما والحكمة تقتضي ذلك التناكح الكذائي .

                                                                                                                                                                                                                                      فقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن حواء لما انفصلت من آدم عمر موضعها منه بالشهوة النكاحية التي بها وقع الغشيان لظهور التوالد والتناسل وكان الهواء الخارج الذي عمر موضعه جسم حواء عند خروجها إذ لا خلاء في العالم فطلب ذلك الجزء الهوائي موضعه الذي أخذته حواء بشخصيتها فحرك آدم لطلب موضعه فوجده معمورا بحواء فوقع عليها فلما تغشاها حملت منه فجاءت بالذرية فبقي بعد ذلك سنة جارية في الحيوان من بني آدم وغيره بالطبع ، لكن الإنسان هو الكلمة الجامعة ونسخة العالم فكل ما في العالم جزء منه وليس الإنسان بجزء لواحد من العالم ، وكان سبب الفصل وإيجاد هذا المنفصل الأول طلب الأنس بالمشاكل في الجنس الذي هو النوع الأخص، وليكون في عالم الأجسام بهذا الالتحام الطبيعي للإنسان الكامل بالصورة التي أرادها الله تعالى ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه بالعقل الأول والنفس الكلية انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ويفهم من كلامهم أن هذا الخلق لم يقع هكذا إلا بين هذين الزوجين دون سائر أزواج الحيوانات ولم أظفر في ذلك بما يشفي الغليل، نعم أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زوج إبليس عليهما اللعنة خلقت من خلفه الأيسر، والخلف - كما في الصحاح - أقصر أضلاع الجنب وبذلك فسره الضحاك في هذا المقام ، وإنما أخر بيان خلق الزوج عن بيان خلق المخاطبين لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على امتثال الأمر من تذكير خلقها، وقدم الجار للاعتناء ببيان مبدئية آدم عليه السلام لها ما في التقديم من التشويق إلى المؤخر واختير عنوان الزوجية تمهيدا لما بعده من التناسل

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب بعض المحققين إلى جواز عطف هذه الجملة على مقدر ينبئ عنه السوق ، لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة كأنه قيل : خلقكم من نفس واحدة خلقها أولا وخلق منها زوجها إلخ ، وهذا المقدر إما استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ، وبيان كيفية خلقهم منه بتفصيل ما أجمل أولا، وإما صفة لنفس مفيدة لذلك، وأوجب بعضهم هذا التقدير على تقدير جعل الخطاب فيما تقدم عاما في الجنس، ولعل ذلك لأنه لولا التقدير حينئذ لكان هذا مع قوله تعالى : وبث منهما أي نشر وفرق من تلك النفس [ ص: 183 ] وزوجها على وجه التناسل والتوالد رجالا كثيرا ونساء تكرارا لقوله سبحانه : ( خلقكم ) لأن مؤداهما واحد وليس على سبيل بيان الأول ؛ لأنه معطوف عليه على عدم التقدير ولأوهم أن الرجال والنساء غير المخلوقين من نفس واحدة ، وأنهم منفردون بالخلق منها ومن زوجها ، والناس إنما خلقوا من نفس واحدة من غير مدخل للزوج ، ولا يلزم ذلك على العطف ؛ وجعل المخاطب –بخلقكم- من بعث إليهم عليه الصلاة والسلام ؛ إذ يكون وبث منهما إلخ واقعا على من عدا المبعوث إليهم من الأمم الفائتة للحصر والتوهم في غاية البعد ، وكذا لا يلزم على تقدير حذف المعطوف عليه ، وجعل الخطاب عاما ؛ لأن ذلك المحذوف ، وما عطف عليه يكونان بيانا لكيفية الخلق من تلك النفس ، ومن الناس من ادعى أنه لا مانع من جعل الخطاب عاما من غير حاجة إلى تقدير معطوف عليه معه ، وإلى ذلك ذهب صاحب التقريب ، والمحذور الذي يذكرونه ليس بمتوجه ؛ إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منه ، ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعطوف متكفل ببيان ذلك ، وقد ذكر غير واحد أن اللازم في العطف تغاير المعطوفات ، ولو من وجه ، وهو هنا محقق بلا ريب ، كما لا يخفى ، والتلوين في رجالا ونساء للتكثير ، و كثيرا نعت لـ ( رجالا ) مؤكد لما أفاده التنكير ، والإفراد باعتبار معنى الجمع ، أو العدد ، أو لرعاية صيغة فعيل ، ونقل أبو البقاء أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : بثا كثيرا ، ولهذا أفرد ، وجعله صفة حين -كما قيل- تكلف سمج ، وليس المراد بالرجال والنساء البالغين والبالغات ، بل الذكور والإناث مطلقا تجوزا ، ولعل إيثارهما على الذكور والإناث لتأكيد الكثرة ، والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره ، وقيل : ذكر الكبار منهم ؛ لأنه في معرض المكلفين بالتقوى ، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها ؛ لأن الحكمة تقتضي أن يكن أكثر ؛ إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة ، بخلاف المرأة ، قاله الخطيب. واحتج بعضهم بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة ، وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال . وأجيب بأنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور . على أن الآية لا تدل على أكثر من خلقنا ، وخلق الزوج مما ذكر سبحانه وهو غير واف بالمدعى ، وقرئ : (وخالق وباث) على حذف المبتدأ ؛ لأنه صلة لعطفه على الصلة ، فلا يكون إلا جملة بخلاف نحو زيد ركب وذاهب ، أي : وهو خالق وباث .

                                                                                                                                                                                                                                      واتقوا الله الذي تساءلون به تكرير للأمر الأول ، وتأكيد له ، والمخاطب من بعث إليهم صلى الله عليه وآله وسلم أيضا كما مر ، وقيل : المخاطب هنا وهناك هم العرب -كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - ؛ لأن دأبهم هذا التناشد ، وقيل : المخاطب هناك من بعث إليهم مطلقا ، وهنا العرب خاصة ، وعموم أول الآية لا يمنع خصوص آخرها كالعكس ، ولا يخفى ما فيه من التفكيك ، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشارة إلى جميع صفات الكمال ؛ ترقيا بعد صفة الربوبية ، فكأنه قيل : اتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقا بديعا ، ولكونه مستحقا لصفات الكمال كلها .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى بعض آخر من موجبات الامتثال ؛ فإن قول القائل لصاحبه : أسألك بالله ، وأنشدك الله تعالى على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه و تساءلون إما بمعنى يسأل بعضكم بعضا ، فالمفاعلة على ظاهرها ، وإما بمعنى تسألون - كما قرئ به - وتفاعل يرد بمعنى فعل إذا تعدد فاعله ، وأصله على القراءة المشهورة – تتساءلون - بتاءين ، فحذفت إحداهما للثقل ، وقرأ نافع ، وابن كثير [ ص: 184 ] وسائر أهل الكوفة (تساءلون) بإدغام تاء التفاعل في السين ؛ لتقاربهما في الهمس. والأرحام بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما ، أو على محل المجرور إن كان المحل له ، والكلام على حد مررت بزيد ، وعمر ، وينصره قراءة (تساءلون به وبالأرحام ) ، وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى ، ويقولون : أسألك بالله تعالى ، وبالله سبحانه ، وبالرحم - كما أخرج ذلك غير واحد- عن مجاهد ، وهو اختيار الفارسي ، وعلي بن عيسى . وإما معطوف على الاسم الجليل ، أي : اتقوا الله تعالى والأرحام ، وصلوها ولا تقطعوها ؛ فإن قطعها مما يجب أن يتقى ، وهو رواية ابن حميد ، عن مجاهد ، والضحاك عن ابن عباس ، وابن المنذر عن عكرمة ، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه واختاره الفراء والزجاج ، وجوز الواحدي النصب على الإغراء ، أي : والزموا الأرحام وصلوها ، وقرأ حمزة بالجر ، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور ، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة ؛ لشدة اتصاله بها ، فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه

                                                                                                                                                                                                                                      وأول من شنع على حمزة في هذه القراءة أبو العباس المبرد ، حتى قال : لا تحل القراءة بها ، وتبعه في ذلك جماعة ، منهم ابن عطية ، وزعم أنه يردها وجهان : أحدهما أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ، ولا فائدة فيها أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا مما يغض من الفصاحة . والثاني أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها ، والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك ، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله تعالى عليه وسلم : "من كان حالفا فليحلف بالله تعالى أو ليصمت " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ، ولكن أخذ ذلك ، بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش ، والإمام ابن أعين ، ومحمد بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد الصادق ، - وكان صالحا ورعا ثقة في الحديث- من الطبقة الثالثة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال الإمام أبو حنيفة ، والثوري ، ويحيى بن آدم في حقه : غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض ، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه ، منهم إمام الكوفة - قراءة وعربية - أبو الحسن الكسائي ، وهو أحد القراء السبع الذين قال أساطين الدين : إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده ، بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود ، وابن عباس ، وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري ، وقتادة ، ومجاهد ، وغيرهم - كما نقله ابن يعيش - فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ، ونهاية الجسارة والبشاعة ، وربما يخشى منه الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ، ولسنا متعبدين باتباعهم ، وقد أطال أبو حيان في "البحر" الكلام في الرد عليهم ، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح ، بل الصحيح ما ذهب إليه الكوفيون من الجواز ، وورد ذلك في لسان العرب نثرا ونظما ، وإلى ذلك ذهب ابن مالك ، وحديث : إن ذكر الأرحام - حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى - ساقط من القول ؛ لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة ، وهي التي في حقوق العباد ، التي من جملتها صلة الرحم ، فالتساؤل بالأرحام مما يقتضيه بلا ريب ، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها ، وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها ، والقسم بحرمتها ، والحديث يرد ذلك ؛ للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى ، فقد قيل في جوابها : لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقا منهي عنه ، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر ، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلا فمما لا بأس به ؛ ففي الخبر : "أفلح وأبيه إن صدق " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر : أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف [ ص: 185 ] وليس هو -كقول القائل- : والرحم لأفعلن كذا ، ولقد فعلت كذا ، فلا يكون متعلق النهي في شيء ، والقول بأن المراد ههنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية – لا يخفى ما فيه فافهم ، وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر ، فقال في الخصائص : باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به ، من ذلك :

                                                                                                                                                                                                                                      رسم دار وقفت في طلله

                                                                                                                                                                                                                                      أي رب رسم دار ، وكان رؤبة إذا قيل له : كيف أصبحت؟ يقول : خير عافاك الله تعالى - أي بخير - ويحذف الباء؛ لدلالة الحال عليها ، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة ، وفي شرح المفصل أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها ، وقد مشى على ذلك أيضا الزمخشري في أحاجيه ، وذكر صاحب الكشف أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية ؛ لثبوت إضمار الجار في نحو : الله لأفعلن ، وفي نحو - ما مثل عبد الله ولا أخيه يقولان : ذلك - والحمل على ما ثبت هو الوجه ، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو - اتق الله تعالى فوالله إنه مطلع عليك - وترك الفاء ؛ لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن زيد : (والأرحام) بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي : والأرحام كذلك ، أي مما يتقى لقرينة اتقوا أو مما يتساءل به لقرينة تساءلون وقدره ابن عطية : - أهل لأن توصل- وابن جني : -مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه- ولعل الجملة حينئذ معترضة - وإلا ففي العطف خفاء ، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى ، وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال : نعم ، أما ترضين أني أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى ، قال : فذلك لك" ، وأخرج البزار بإسناد حسن : "الرحم حجنة متمسكة بالعرش تكلم بلسان زلق : اللهم صل من وصلني ، واقطع من قطعني ، فيقول الله تعالى : أنا الرحمن أنا الرحيم؛ فإني شققت الرحم من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن بتكها بتكته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح : " إن من أربى الربا الاستطالة بغير حق ، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن ، فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة " .

                                                                                                                                                                                                                                      والأخبار في هذا الباب كثيرة ، والمراد بالرحم الأقارب ، ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب ، وإن بعد ، ويطلق على الأقارب من جهة النساء ، وتخصيصه في باب الصلة بمن ينتهي إلى رحم الأم منقطع عن القبول ؛ إذ قد ورد الأمر بالإحسان إلى الأقارب مطلقا ، إن الله كان عليكم رقيبا (1) أي حفيظا ، - قاله مجاهد - فهو من رقبه بمعنى حفظه ، كما قاله الراغب ، وقد يفسر : بالمطلع ، ومنه المرقب للمكان العالي الذي يشرف عليه ليطلع على ما دونه ، ومن هنا فسره ابن زيد : بالعالم ، وعلى كل فهو فعيل بمعنى فاعل ، والجملة في موضع التعليل للأمر ووجوب الامتثال ، وإظهار الاسم الجليل لتأكيده ، وتقديم الجار لرعاية الفواصل ،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية