الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          529 - مسألة : وفرض على كل من حضر الجمعة - سمع الخطبة أو لم يسمع - أن لا يتكلم مدة خطبة الإمام بشيء ألبتة ، إلا التسليم إن دخل حينئذ ، ورد السلام على من سلم ممن دخل حينئذ ، وحمد الله تعالى إن عطس ، وتشميت العاطس إن حمد الله ، والرد على المشمت ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر الخطيب بالصلاة عليه ، والتأمين على دعائه ، وابتداء مخاطبة الإمام في الحاجة تعن ، ومجاوبة الإمام ممن ابتدأه الإمام بالكلام في أمر ما فقط ؟

                                                                                                                                                                                          ولا يحل أن يقول أحد حينئذ لمن يتكلم - : انصت ، ولكن يشير إليه أو يغمزه ، أو يحصبه ؟ ومن تكلم بغير ما ذكرنا ذاكرا عالما بالنهي فلا جمعة له ؟ فإن أدخل الخطيب في خطبته ما ليس من ذكر الله تعالى ولا من الدعاء المأمور به فالكلام مباح حينئذ ، وكذلك إذا جلس الإمام بين الخطبتين فالكلام حينئذ مباح ، وبين الخطبة وابتداء الصلاة أيضا ، ولا يجوز المس للحصى مدة الخطبة حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن راهويه أنا جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور بن المعتمر عن أبي معشر زياد بن كليب عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن القرثع الضبي - وكان من القراء الأولين - عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمر ثم يخرج إلى الجمعة فينصت حتى يقضي صلاته إلا كان كفارة لما كان قبله من الجمعة } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 269 ] حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كريب ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ، ومن مس الحصا فقد لغا }

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت والإمام يخطب فقد لغوت } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : قال الله تعالى : { وإذا مروا باللغو مروا كراما } .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة على المنبر ؟ فقال أبو ذر لأبي بن كعب : متى نزلت هذه السورة ؟ فأعرض عنه أبي ، فلما قضى صلاته قال أبي بن كعب لأبي ذر : ما لك من صلاتك إلا ما لغوت ، فدخل أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ؟ فقال : صدق أبي بن كعب } .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى حماد عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني : أن علقمة بن عبد الله المزني [ ص: 270 ] كان بمكة فجاء كريه والإمام يخطب يوم الجمعة ، فقال له : حبست القوم قد ارتحلوا ، فقال له : لا تعجل حتى ننصرف ، فلما قضى صلاته قال له ابن عمر : أما صاحبك فحمار ، وأما أنت فلا جمعة لك ؟

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن أبيه عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي : أن رجلا استفتح عبد الله بن مسعود آية والإمام يخطب ، فلما صلى قال : هذا حظك من صلاتك ؟ قال أبو محمد : فهؤلاء ثلاثة من الصحابة لا يعرف لهم من الصحابة رضي الله عنهم مخالف ، كلهم يبطل صلاة من تكلم عامدا في الخطبة .

                                                                                                                                                                                          وبه نقول ، وعليه إعادتها في الوقت ، لأنه لم يصلها والعجب ممن قال : معنى هذا أنه بطل أجره قال أبو محمد : وإذا بطل أجره فقد بطل عمله بلا شك ؟

                                                                                                                                                                                          ومن طريق معمر عن أيوب السختياني عن نافع : أن ابن عمر حصب رجلين كانا يتكلمان يوم الجمعة ، وأنه رأى سائلا يسأل يوم الجمعة فحصبه ، وأنه كان يومئ إلى الرجل يوم الجمعة : أن اسكت ؟ وأما إذا أدخل الإمام في خطبته مدح من لا حاجة بالمسلمين إلى مدحه ، أو دعاء فيه بغي وفضول من القول ، أو ذم من لا يستحق - : فليس هذا من الخطبة ، فلا يجوز الإنصات لذلك ، بل تغييره واجب إن أمكن

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق سفيان الثوري عن مجالد قال : رأيت الشعبي ، وأبا بردة بن أبي موسى الأشعري يتكلمان والحجاج يخطب حين قال : لعن الله ولعن الله ، فقلت : أتتكلمان في الخطبة ؟ فقالا : لم نؤمر بأن ننصت لهذا ؟ وعن المعتمر بن سليمان التيمي عن إسماعيل بن أبي خالد قال : رأيت إبراهيم النخعي يتكلم والإمام يخطب زمن الحجاج ؟ [ ص: 271 ] قال أبو محمد : كان الحجاج وخطباؤه يلعنون عليا ، وابن الزبير رضي الله عنهم ولعن لاعنهم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وقد روينا خلافا عن بعض السلف لا نقول به ؟ - : رويناه من طريق وكيع عن ابن نائل عن إسماعيل بن أمية عن عروة بن الزبير : أنه كان لا يرى بأسا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة .

                                                                                                                                                                                          وأما ابتداء السلام ورده فإن عبد الله بن ربيع حدثنا قال : ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا أحمد بن حنبل ثنا بشر هو ابن المفضل - عن محمد بن عجلان عن المقبري هو سعيد بن أبي سعيد - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم ، فإذا أراد أن يقوم فليسلم ، فليست الأولى بأحق من الآخرة } وقال عز وجل { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } .

                                                                                                                                                                                          وأما حمد العاطس وتشميته فإن عبد الله بن ربيع حدثنا قال : ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن سالم بن عبيد قال : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا عطس أحدكم فليحمد الله ، وليقل له من عنده : يرحمك الله ، وليرد عليهم : يغفر الله لنا ولكم } .

                                                                                                                                                                                          وقد قيل : إن بين هلال بن يساف وبين سالم بن عبيد : خالد بن عرفجة

                                                                                                                                                                                          وبه إلى أبي داود : ثنا موسى بن إسماعيل قال عبد العزيز هو ابن عبد الله بن أبي سلمة - عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد لله على كل حال ، وليقل أخوه أو صاحبه : يرحمك الله ، ويقول هو : يهديكم الله ويصلح بالكم } . [ ص: 272 ]

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فإن قيل : قد صح النهي عن الكلام والأمر بالإنصات في الخطبة ، وصح الأمر بالسلام ورده ، وبحمد الله تعالى عند العطاس وتشميته عند ذلك ورده ، فقال قوم : إلا في الخطبة ، وقلتم أنتم : بالإنصات في الخطبة إلا عن السلام ورده والحمد والتشميت والرد ، فمن لكم بترجيح استثنائكم وتغليب استعمالكم للأخبار على استثناء غيركم واستعماله للأخبار ، لا سيما وقد أجمعتم معنا على أن كل ذلك لا يجوز في الصلاة ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا وبالله تعالى التوفيق : قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة أنه { لا يصلح فيها شيء من كلام الناس } والقياس للخطبة على الصلاة باطل ، إذ لم يوجبه قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع .

                                                                                                                                                                                          فنظرنا في ذلك فوجدنا الخطبة يجوز فيها ابتداء الخطيب بالكلام ومجاوبته ، وابتداء ذي الحاجة لله بالمكالمة وجواب الخطيب له ، على ما نذكر بعد هذا ، وكل هذا ليس هو فرضا ، بل هو مباح .

                                                                                                                                                                                          ويجوز فيها ابتداء الداخل بالصلاة تطوعا .

                                                                                                                                                                                          فصح أن الكلام المأمور به مغلب على الإنصات فيها ، لأنه من المحال الممتنع الذي لا يمكن ألبتة جوازه - : أن يكون الكلام المباح جائزا فيها ويكون الكلام الفرض المأمور به الذي لا يحل تركه فيها - وبالله تعالى نتأيد - : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إبراهيم بن المنذر ثنا الوليد بن مسلم ثنا أبو عمرو هو الأوزاعي - حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال { بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال : يا رسول الله ، هلك المال ، وجاع العيال ، فادع الله لنا ، فرفع [ ص: 273 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ، وما نرى في السماء قزعة } وذكر باقي الحديث .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا شيبان بن فروخ ثنا سليمان بن المغيرة ثنا حميد بن هلال قال : { قال أبو رفاعة : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فقلت : يا رسول الله ، رجل غريب جاء يسأل عن دينه ، لا يدري ما دينه ، فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي ، وأتى بكرسي حسبت قوائمه حديدا ، فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله - عز وجل - ثم أتى إلى خطبته فأتم آخرها } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أبو رفاعة هذا تميم العدوي له صحبة

                                                                                                                                                                                          وقد ذكرنا قبل هذا الباب في المتصل به كلام عمر مع الناس على المنبر في أن السجود ليس فرضا .

                                                                                                                                                                                          وذكرنا قبل كلام عمر مع عثمان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وكلام عثمان معه وعمر يخطب في أمر غسل الجمعة وإنكار تركه ، لا ينكر الكلام في كل ذلك أحد من الصحابة ، حتى نشأ من لا يعتد به مع من ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          والعجيب أن بعضهم - ممن ينتسب إلى العلم بزعمهم - قال : لعل هذا قبل نسخ الكلام في الصلاة أو قال : في الخطبة

                                                                                                                                                                                          فليت شعري أين وجد نسخ الكلام الذي ذكرنا في الخطبة ؟

                                                                                                                                                                                          وما الذي أدخل الصلاة في الخطبة ؟ وليس لها شيء في أحكامها .

                                                                                                                                                                                          ولو خطب الخطيب على غير وضوء لما ضر ذلك خطبته ، وهو يخطبها إلى غير القبلة ، فأين الصلاة من الخطبة لو عقلوا ؟ ونعوذ بالله من الضلال - والدين لا يؤخذ ب " لعل " [ ص: 274 ] ومن طريق وكيع عن الفضل بن دلهم عن الحسن قال يسلم ، ويرد السلام ، ويشمت العاطس - والإمام يخطب .

                                                                                                                                                                                          وعن وكيع عن سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي مثله .

                                                                                                                                                                                          وعن الشعبي ، وسالم بن عبد الله بن عمر قالا : رد السلام يوم الجمعة واسمع .

                                                                                                                                                                                          وقال القاسم بن محمد ، ومحمد بن علي : يرد في نفسه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق شعبة قال : سألت حماد بن أبي سليمان ، والحكم بن عتيبة عن رجل جاء يوم الجمعة ، وقد خرج الإمام ؟ فقالا جميعا : يسلم ويردون عليه ، وإن عطس شمتوه ، ويرد عليهم ؟

                                                                                                                                                                                          وعند عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : إذا عطس الرجل يوم الجمعة والإمام يخطب فحمد الله تعالى ، أو سلم وأنت تسمعه وتسمع الخطبة فشمته في نفسك ، ورد عليه في نفسك ، فإن كنت لا تسمع الخطبة فشمته وأسمعه ، ورد عليه ، وأسمعه ؟ وعن معمر عن الحسن البصري وقتادة قالا جميعا في الرجل يسلم وهو يسمع الخطبة : أنه يرد ويسمعه .

                                                                                                                                                                                          وعن حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن : أنه كان لا يرى بأسا أن يسلم الرجل ويرد السلام والإمام يخطب .

                                                                                                                                                                                          وهو قول الشافعي ، وعبد الرزاق ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي سليمان وأصحابهم .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية