الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 249 ] فصل : وأما قرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبهم منه : فهذا أمر معروف لا يجهل ; فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة والذكر والخشية والتوكل وهذا متفق عليه بين الناس كلهم ; بخلاف القرب الذي قبله ; فإن هذا ينكره الجهمي الذي يقول : ليس فوق السموات رب يعبد ولا إله يصلى له ويسجد وهذا كفر وفند . والأول تنكره الكلابية ومن يقول : لا تقوم الأمور الاختيارية به . ومن أتباع " الأشعري " من أصحاب أحمد وغيره من يجعل الرضا والغضب والفرح والمحبة : هي الإرادة . وتارة يجعلونها صفات أخرى قديمة غير الإرادة وهذا القرب الذي في القلب المتفق عليه هو قرب المثال العلمي في الحقيقة وذلك مستلزم لمحبته ; فإن من أحب شخصا تمثل في قلبه ووجده قريبا إلى قلبه وإذا ذكره حضر في قلبه وقد يحصل للإنسان بمحبوبه المخلوق فناء عن نفسه كما قال القائل :

                غبت بك عني فظننت أنك أني

                [ ص: 250 ] ومنه قول القائل :

                حاضر في القلب أبصره     لست أنساه فأذكره

                وقول الآخر :

                مثالك في عيني وذكرك في فمي     ومثواك في قلبي فأين تغيب

                وهذا هو " المثل الأعلى " الذي قال الله فيه : { وله المثل الأعلى } وكقوله : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } { وهو الله في السماوات وفي الأرض } وهو " المثل " في قوله : { ليس كمثله شيء } فإنه سبحانه لا يماثله شيء أصلا فنفسه المقدسة لا يماثلها شيء من الموجودات وصفاتها لا يماثلها شيء من الصفات وما في القلوب من معرفته لا يماثله شيء من المعارف ومحبته لا يماثلها شيء فله " المثل الأعلى " كما أنه في نفسه الأعلى .

                وقد قال تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير } وغير ذلك . [ ص: 251 ] ويشبه مثل هذا بمثل هذا وذلك يتضمن تشبيه ذات هذا بذات هذا ; فإن الخبر عن الأشياء إنما يكون بعد معرفتها وهو سبحانه أخبر أولا عن " المثل العلمي " الذي يسمى الصورة الذهنية ثم إذا كان الخبر صادقا فإنه يستدل به على أن الحقيقة مطابقة لما تصوره ; ولهذا كان الناس إنما يعبرون عن الشيء ويصفونه بما يعرفونه وتتنوع أسماؤه عندهم لتنوع ما يعرفونه من صفاته . ومن رأى الله عز وجل في المنام فإنه يراه في صورة من الصور بحسب حال الرائي إن كان صالحا رآه في صورة حسنة ; ولهذا رآه النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة . و " المشاهدات " التي قد تحصل لبعض العارفين في اليقظة كقول ابن عمر لابن الزبير لما خطب إليه ابنته في الطواف : أتحدثني في النساء ونحن نتراءى الله عز وجل في طوافنا وأمثال ذلك إنما يتعلق بالمثال العلمي المشهود لكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه فيها كلام ليس هذا موضعه ; فإن ابن عباس قال : رآه بفؤاده مرتين .

                فالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بما لم يشركه فيه غيره . وهذا المثال العلمي يتنوع في القلوب بحسب المعرفة بالله والمحبة له تنوعا لا ينحصر ; بل الخلق في إيمانهم " بالله " و " كتابه " و " رسوله " متنوعون ; [ ص: 252 ] فلكل منهم في قلبه للكتاب والرسول مثال علمي بحسب معرفته مع اشتراكهم في الإيمان بالله وبكتابه وبرسوله - فهم متنوعون في ذلك متفاضلون . وكذلك إيمانهم بالمعاد والجنة والنار وغير ذلك من أمور الغيب وكذلك ما يخبر به الناس بعضهم بعضا من أمور الغيب هو كذلك بل يشاهدون الأمور ويسمعون الأصوات وهم متنوعون في الرؤية والسماع فالواحد منهم يتبين له من حال المشهود ما لم يتبين للآخر حتى قد يختلفون فيثبت هذا ما لا يثبت الآخر فكيف فيما أخبروا به من الغيب . والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم عن الغيب بأحاديث كثيرة وليس كلهم سمعها مفصلة والذين سمعوا ما سمعوا ليس كلهم فهم مراده بل هم متفاضلون في السمع والفهم كتفاضل معرفتهم وإيمانهم بحسب ذلك حتى يثبت أحدهم أمورا كثيرة والآخر لا يثبتها لا سيما من علق بقلبه شبه النفاة ; فهو ينفي ما أثبته الكتاب والسنة وما عليه أهل الحق .

                وهذا يبين لك أن هؤلاء كلهم مؤمنون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر - وإن كانوا متفاضلين في الإيمان - إلا من شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين . ثم هم يتفاضلون في العلم والإرادة فإذا كان أحدهم أكثر محبة لله وذكرا وعبادة كان الإيمان عنده أقوى وأرسخ من حيث المحبة والعبادة لله وإن كان لغيره من العلم بالأسماء والصفات ما ليس له . [ ص: 253 ] فصاحب المحبة والذكر والتأله يحصل له من حضور الرب في قلبه وأنسه به ما لا يحصل لمن ليس مثله . وكذلك الإيمان بالرسول قد يكون أحد الشخصين أعلم بصفاته والآخر أكثر محبة له وكذلك الأشخاص - المشهورون - قد يكون الرجل أعلم بما رأى والآخر أكثر محبة له و { الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف } وتعارفها تناسبها وتشابهها فيما تعلمه وتحبه وتكرهه . وكثير من هؤلاء العباد الذي يشهد قلبه الصورة المثالية ويفنى فيما شهده يظن أنه رأى الله بعينه ; لأنه لما استولى على قلبه سلطان الشهود ولم يبق له عقل يميز به والمشاهد للأمور هو القلب لكن تارة شاهدها بواسطة الحس الظاهر وتارة بنفسه فلا يبقى أيضا يميز بين الشهودين فإن غاب عن الفرق بين الشهودين ظن أنه رآه بعينه ; وإن غاب عن الفرق بين الشاهد والمشهود ظن أنه هو كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال : ليس في الجبة إلا الله . وكما قال الآخر : غبت بك عني ; فظننت أنك أني وكان المحبوب قد ألقى نفسه في الماء فألقى المحب نفسه خلفه . وهذا كله من قوة شهود القلب وضعف العقل بمنزلة ما يراه النائم ; فإنه لغيبة عقله بالنوم يظن أن ما يراه هو بعينه الظاهرة وما يسمعه يسمعه [ ص: 254 ] بأذنه الظاهرة وما يتكلم به يتكلم به بلسانه بالحس الظاهر ; وعينه مغمضة ولسانه ساكت . وقد يقوى تصوره الخيالي في النوم حتى يتصل بالحس الظاهر فيبقى النائم يقرأ بلسانه ويتكلم بلسانه تبعا لخياله ومع هذا فعقله غائب لا يشعر بذلك كما يحصل مثل ذلك للسكران والمجنون وغيرهما .

                ولهذا جاءت الشريعة بأن القلم مرفوع عن النائم والمجنون والمغمى عليه ولم يختلفوا إلا فيمن زال عقله بسبب محرم . وهذا يبين أن كل من أقر بالله فعنده من الإيمان بحسب ذلك ثم من لم تقم عليه الحجة بما جاءت به الأخبار لم يكفر بجحده وهذا يبين أن عامة أهل الصلاة مؤمنون بالله ورسوله - وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته - إلا من كان منافقا - يظهر الإيمان بلسانه ويبطن الكفر بالرسول - فهذا ليس بمؤمن ; وكل من أظهر الإسلام ولم يكن منافقا فهو مؤمن له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك وهو ممن يخرج من النار ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم . ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف الله كما يعرفه نبيه صلى الله عليه وسلم لم تدخل أمته الجنة ; فإنهم - أو أكثرهم - لا يستطيعون هذه المعرفة ; بل يدخلونها [ ص: 255 ] وتكون منازلهم متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم وإذا كان الرجل قد حصل له إيمان يعرف الله به وأتى آخر بأكثر من ذلك عجز عنه لم يحمل ما لا يطيق وإن كان يحصل له بذلك فتنة لم يحدث بحديث يكون له فيه فتنة .

                فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم بالخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها : كالقرآن والحديث المشهور وهم مختلفون في معنى ذلك . والله أعلم . وصلى الله على محمد وآله وصحبه ؟ .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية