الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( فأثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه ) )      ( ( فكل ما جاء من الآيات
أو صح في الأخبار عن ثقات ) )      ( ( من الأحاديث نمره كما
قد جاء فاسمع من نظامي واعلما ) )      ( ( ولا نرد ذاك بالعقول
لقول مفتر به جهول ) )      ( ( فعقدنا الإثبات يا خليلي
من غير تعطيل ولا تمثيل ) )



[ ص: 94 ] ( فـ ) إنهم : أي الأثرية من الفرقة الناجية ، ( أثبتوا النصوص ) القرآنية والأحاديث النبوية ، متمسكين ( بالتنزيه ) لله - سبحانه وتعالى ، ( من غير تعطيل ) للصفات الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة ، وهو نفيها عنه - تعالى ، فإن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله - تعالى - وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات ، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل ، فمثلوا أولا وعطلوا آخرا ، فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته - تعالى - بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم ، فعطلوا ما يستحقه - سبحانه وتعالى - من الأسماء والصفات اللائقة به - عز وجل ، بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة ، فإنهم يصفون الله - سبحانه وتعالى - بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ( ولا تشبيه ) ، تعالى الله عن ذلك ، فإنه - تعالى - قال في محكم كتابه : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ، فرد على المشبهة بنفي المثلية ، ورد على المعطلة بقوله : ( وهو السميع البصير ) ، واعلم أن قدماء المعتزلة كأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم ذهبوا إلى أن المماثلة هي المشاكلة في أخص صفات النفس ، فمماثلة زيد لعمرو عندهم مشاركته إياه في الناطقية فقط ، وذهب الماتريدية إلى أن المماثلة هي الاشتراك في الصفات النفسية ، كالحيوانية والناطقية لزيد وعمرو . قالوا : ومن لازم الاشتراك في الصفة النفسية أمران : أحدهما الاشتراك فيما يجب ويجوز ويمتنع ، وثانيهما أن يسد كل منهما مسد الآخر ، وينوب الآخر منابه ، فمن ثم يقال المثلان موجودان مشتركان فيما يجب ويجوز ويمتنع ، أو [ ص: 95 ] موجودان ، يسد كل واحد منهما مسد الآخر .

والمتماثلان وإن اشتركا في الصفات النفسية ، لكن لا بد من اختلافهما بجهة أخرى ليتحقق التعدد والتمايز ، فيصح التماثل ، ونسب إلى الأشعري أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه ، واعترض بأنه لا تعدد حينئذ فلا تماثل ، وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا زيد مثل عمرو في الفقه ، إذا كان يساويه فيه وسد مسده ، وإن اختلفا في كثير من الأوصاف ، وفي الحديث : " الحنطة بالحنطة مثلا بمثل " ، أراد به الاستواء في الكيل دون الوزن وعدد الحبات وأوصافها ، ولا يخفى أن من الممكن أن يقال المراد التساوي في الوجه الذي به التماثل ، فزيد وعمرو إذا اشتركا في الفقه وكان بينهما مساواة فيه بحيث ينوب أحدهما عن الآخر ، يصح القول بأنهما مثلان فيه وإلا فلا .

وكل هذا مغالطة وتمويه ، ليس شيء منه مما نحن فيه ، ( فكل ما جاء ) عن الله - تعالى - في القرآن العظيم ( من الآيات ) القرآنية ، ( أو صح ) مجيئه ( في الأخبار ) بالأسانيد الثابتة المرضية ، ( عن ) رواة ( ثقات ) في النقل ، وهم العدول الضابطون المرضيون عند أهل الفن العارفين بالجرح والتعديل ( من الأحاديث ) الصحيحة والآثار الصريحة مما يوهم تشبيها أو تمثيلا ، فهو من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله ، نؤمن به وبأنه من عند الله - تعالى ، و ( نمره كما قد جاء ) عن الله ، أو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فيوصف [ ص: 96 ] الله بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبما وصفه به السابقون الأولون ، لا يتجاوز القرآن والحديث . قال الإمام أحمد - رضي الله عنه : لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم ، لا نتجاوز القرآن والحديث . فمذهب السلف أنهم يصفون الله - تعالى - بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تكييف ، وهو - سبحانه - ليس كمثله شيء [ ص: 97 ] لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فالله - تعالى - منزه عنه حقيقة ، فإنه - تعالى - مستحق الكمال الذي لا غاية فوقه ، ومذهب السلف عدم الخوض في مثل هذا ، والسكوت عنه ، وتفويض علمه إلى الله - تعالى . قال حبر القرآن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما : هذا من [ ص: 98 ] المكتوم الذي لا يفسر ، فالواجب على الإنسان أن يؤمن بظاهره ، ويكل علمه إلى الله - تعالى . وعلى ذلك مضت أئمة السلف ، كالزهري ومالك ، [ ص: 99 ] والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، وعبد الله بن المبارك ، والإمام أحمد ، وإسحاق ، فكل هؤلاء - رضي الله عنهم - يقولون في الآيات المتشابهة : أمروها كما جاءت . قال سفيان بن عيينة - وناهيك به : كل ما وصف الله به نفسه في كتابه ، فتفسيره قراءته والسكوت عنه ، ليس لأحد أن يفسره إلا الله ورسوله . فهذا مذهب سلف الأمة وفضلاء الأئمة - رضي الله عنهم ، فلهذا قلت ( فاسمع ) سماع إذعان وتفهم وامتثال وتعليم ( من ) منطوق ( نظامي ) ومفهومه ، ومحترزه ومعلومه ، ( واعلما ) فعل أمر مؤكد بنون التأكيد الخفيفة المنقلبة ألفا ، أي اعلم ذلك علم تحقيق وتحرير وتدقيق ، واعتمده واعتقده ، فإنه نهج سلف الأمة ، وسبيل أحبار الأئمة ، ( ولا نرد ذاك ) الوارد في الكتاب المنزل ، وما جاء عن النبي المرسل ولا شيئا منه ( بالعقول ) ، بضرب من التأويل أو التمويه والتضليل ، ( لـ ) أجل ( قول ) إنسان ( مفتر ) من الفرية ، وهي الكذب ، ومنه " فقد أعظم على الله الفرية " ، أي الكذب ، ومنه قوله - تعالى : ( ولا يأتين ببهتان يفترينه ) ، يقال : فرى يفري فريا ، وافترى يفتري افتراء إذا كذب ، ومفتر اسم فاعل منه ، ( به ) أي بذلك القول الذي تقوله ، والتأويل الذي تأوله ( جهول ) ، صفة لمفتر من صفات المبالغة ، فإن الله - جل ثناؤه - سمى نفسه في كتابه العزيز بالرحمن الرحيم ، ووصف نفسه بالرحمة والمحبة ، فقال : ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) ، وقال : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) ، وقال : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) ، وقال : ( إن الله يحب المتقين - و يحب المحسنين - و يحب الصابرين - و يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) [ ص: 100 ] وكذلك الرضا والغضب إلى غير ذلك من سائر ما جاء به الكتاب العظيم والنبي الكريم ، فسلف الأمة وعلماء الأئمة يؤمنون به ، ويثبتونه لله - تعالى - بالمعنى الذي أراده - تعالى - مع اعتقادهم التنزيه والتقديس ، عن التشبيه والتنقيص ، ومن الناس من يجعل رحمة الله وحبه - تعالى - عبارة عما يخلقه من النعمة ، وهذا ظاهر البطلان .

فإن قيل : إن إثبات هذا تشبيه ; لأن الرحمة رقة تلحق المخلوق ، والرب منزه عن مثل صفات المخلوقين ، ( فالجواب ) إن الذي يلزم من هذه الصفات يلزم من غيرها ، فإن الإرادة في حق المخلوق ميله إلى ما ينفعه ، ودفع ما يضره ، والله - تعالى - منزه عن الاحتياج إلى عباده ، وهم لا يبلغون ضره ولا نفعه ، بل هو الغني عن كل ما سواه .

فإن قيل : الإرادة التي نثبتها لله ليست مثل إرادة المخلوقين ، كما أنا قد اتفقنا وسائر المسلمين على أنه - تعالى - حي عليم قدير ، وليس هو مثل سائر الأحياء العلماء القادرين ، ( فالجواب ) أنا نقول : وكذلك الرحمة والمحبة التي نثبتها لله - تعالى - ليست مثل رحمة المخلوق ومحبة المخلوق .

فإن قيل : لا نعقل من المحبة والرحمة إلا هذا . قال لك نفاة الصفات : ونحن لا نعقل من الإرادة إلا هذا . وقلنا نحن - معشر أهل الأثر - : لا يخفى على عاقل فهيم ، ولا مؤمن سليم أن إرادتنا ومحبتنا ، ورحمتنا بالنسبة إلينا ، وإرادته - تعالى - ومحبته ، ورحمته بالنسبة إليه ، فكما أن ذاته لا تشبه ذواتنا ، وحياته لا تشبه حياتنا ، فرحمته ومحبته ورضاه وغضبه كذلك ، فلا يجوز التفريق بين المتماثلين ، فكيف تثبت له إحدى الصفتين ، وتنفي عنه الأخرى مع ورود الجميع في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة ؟ وليس في العقل ، ولا في السمع ما يوجب التفريق ، إذ غاية ما يقال : إنا نثبت الإرادة بالعقل ; لأن وجود التخصيص في المخلوقات دل على الإرادة ، فيقال : أولا انتفاء الدليل المعين لا يقتضي انتفاء المدلول ، فهب أن مثل هذا الدليل لا يثبت في الرحمة والمحبة ، فمن أين نفيتم ذلك مع أن السمع أثبت ذلك ؟ ويقال ثانيا في إثبات ذلك بالطريق العقلي نظير الذي أثبتم به الإرادة : ما في المخلوقات من وجود المنافع للمحتاجين ، وكشف الضر عن المضرورين ، [ ص: 101 ] والإحسان إلى المخلوقات ، وأنواع الرزق والهدى والمسرات دليل على رحمة الخالق - سبحانه ، والقرآن يثبت دلائل الربوبية بهذه الطريق ، تارة يدلهم بالآيات المخلوقة على وجود الخالق ، ويثبت علمه وقدرته وحياته ، وتارة يدلهم بالنعم والآلاء على وجود بره وإحسانه المستلزم رحمته ، وهذا كثير في القرآن ، كقوله تعالى : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) الآية ، وقوله : ( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز ) الآية ، وقوله في سورة الرحمن بعد ذكر تعداد أنواع النعم : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ، وكذلك إثبات حكمته - تعالى - ومحبته التي تنبني عليها حكمة خلقه وأمره ، مما يعلم بالسمع وبالعقل أيضا ، كما تعلم إرادته - تعالى - ( بهما ) ، وسلف الأمة وأئمتها على أن الله - تعالى - يحب ويحب ، وهو قول شيوخ ( أهل ) المعرفة . وفي الحديث : " وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة " . إذا علمت ذلك ( فعقدنا ) معشر الأثرية الذي نعقد عليه ، ونهجنا الذي نسلكه ونذهب إليه ، ( الإثبات ) للأسماء والصفات ، كما وردت به الآيات ، ودلت عليه الروايات ، ( يا خليلي ) من الخلة ، وهي نهاية المحبة وخلاصتها ، بحيث أنها تخللت الأعضاء والمفاصل ، والمراد بالخليل هنا الموافق على مذهب السلف ، السائل عن منهاجه ودقائقه وأمهات مسائله وحقائقه ، فإنا ندين لله - تعالى - بإثبات ما جاءت به الآيات وصحيح الروايات ، وسلكته الأئمة السادات ( من غير تعطيل ) لها عن حقائقها ونفيها مع صحة مخارجها ، بل نثبتها ونؤمن بها ، ولا تشبيه في مجرد إثباتها ، ( ولا ) أي : ومن غير ( تمثيل ) لها بصفات المخلوق ، بل إثبات بلا تمثيل ، وتنزيه بلا تعطيل ، فالممثل يعبد صنما ، والمعطل يعبد عدما ، والمثبت المسلم يعبد رب الأرض والسماء ، المنعوت بنعوت الصفات والأسماء . وعندنا معشر السلف ومن نحا منحانا من علماء الخلف .

التالي السابق


الخدمات العلمية