الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 329 ] فصل

                        ومنها : رأي قوم تغالوا في تعظيم شيوخهم ، حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه :

                        فالمقتصد فيهم يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان ، وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور .

                        وهو باطل محض ، وبدعة فاحشة ؛ لأنه لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبدا مبالغ المتقدمين ، فخير القرون القرن الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ، ثم الذين يلونهم ، وهكذا يكون الأمر أبدا إلى قيام الساعة ، فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام ، ثم لا زال ينقص شيئا فشيئا إلى آخر الدنيا .

                        لكن لا يذهب الحق جملة ، بل لا بد من طائفة تقوم به وتعتقده ، وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم ، لا ما كان عليه الأولون من كل وجه ، لأنه لو أنفق أحد من المتأخرين وزن أحد ذهبا ؛ ما بلغ مد أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نصيفه ؛ حسبما أخبر عنه الصادق صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان ذلك في المال ؛ فكذلك في سائر شعب الإيمان ؛ بشهادة التجربة العادية .

                        ولما تقدم أول الكتاب أنه لا يزال الدين في نقص ؛ فهو ـ أصلا ـ لا شك فيه ، وهو عند أهل السنة والجماعة ؛ فكيف يعتقد بعد ذلك في أنه ولي أهل الأرض ؟ ! وليس في الأمة ولي غيره ! ! لكن الجهل الغالب ، والغلو في التعظيم ، والتعصب للنحل ، يؤدي إلى مثله أو أعظم منه .

                        والمتوسط يزعم أنه مساو للنبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه لا يأتيه الوحي .

                        [ ص: 330 ] بلغني هذا عن طائفة من الغالين في شيخهم ، الحاملين لطريقتهم في زعمهم ؛ نظير ما ادعاه بعض تلامذة الحلاج في شيخهم على الاقتصاد منهم فيه .

                        والغالي يزعم فيه أشنع من هذا ، كما ادعى أصحاب الحلاج في الحلاج .

                        وقد حدثني بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق في النقل أنه قال : " أقمت زمانا في بعض القرى البادية ، وفيها من هذه الطائفة المشار إليها كثير " .

                        قال : " فخرجت يوما من منزلي لبعض شأني ، فرأيت رجلين منهم قاعدين يتحدثان ، فاتهمت أنهما يتحدثان في بعض فروع طريقتهم ، فقربت منهما على استخفاء لأسمع من كلامهم ـ إذ من شأنهم الاستخفاء بأسرارهم ـ ، فتحدثا في شيخهم وعظم منزلته ، وأنه لا أحد في الدنيا مثله ، فقال أحدهما للآخر : أتحب الحق ؟ هو النبي ، قال : نعم ، وطربا لهذه المقابلة طربا عظيما ، ثم قال أحدهما للآخر : أتحب الحق ؟ هو كذا ، قال : نعم ، هذا هو الحق " . قال المخبر لي : " فقمت من ذلك ( المكان ) فارا أن يصيبني معهم قارعة .

                        وهذا نمط الشيعة الإمامية ، ولولا الغلو في الدين ، والتكالب على نصر المذهب ، والتهالك في محبة المبتدع ؛ لما وسع ذلك عقل أحد ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا [ ص: 331 ] بذراع الحديث .

                        فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام ، حيث قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ، فقال الله تعالى : قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ، وفي الحديث : ولا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، ولكن قولوا : عبد الله ورسوله .

                        ومن تأمل هذه الأصناف ؛ وجد لها من البدع في فروع الشريعة كثيرا ؛ لأن البدعة إذا دخلت في الأصل ؛ سهلت مداخلتها الفروع .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية