الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الرابعة : الأفعال الماضية تفيد بالوضع أمرا : أن معنى الجملة التي تليها الزمن الماضي فقط لا غير ولا دلالة لها نفسها على انقطاع ذلك المعنى ولا بقائه ، بل إن أفاد الكلام شيئا من ذلك كان لدليل آخر . هذا هو التحقيق . واختلف الأصوليون في دلالة " كان " على التكرار ، وهي مسألة لم يذكرها النحاة في دلالتها على الانقطاع ، وهي مسألة لم يذكرها الأصوليون . قال ابن عصفور في شرح الجمل " : وأصحها ، وهو قول الجمهور : نعم . فإذا قلت : كان زيد قائما دل على أنه قام فيما مضى وليس الآن بقائم ، وقيل : بل لا يعطي الانقطاع بدليل : { وكان الله غفورا رحيما } وأجاب بأن ذلك قد يتصور فيه الانقطاع بأن يكون المراد به الإخبار بأن الله - تعالى - كان فيما مضى غفورا رحيما كما هو الآن كذلك ، فيكون القصد الإخبار بثبوت هذا الوصف في الماضي ، ولم يتعرض لخلاف ذلك . وأجاب السيرافي بأنه يحتمل الانقطاع بمعنى أن المغفور لهم والمرحومين قد زالوا .

                                                      والأحسن في الجواب : أن في صفات الله - تعالى - مسلوبة الدلالة على تعيين الزمان ، وصار صالحا للأزمنة الثلاثة بحدوث الزمان وقدم الصفات الذاتية ، وكذا الفعلية على رأي الحنفية . والتحقيق خلاف القولين كما سبق ، ولهذا قال الزمخشري في قوله تعالى : [ ص: 254 ] { كنتم خير أمة } " كان " عبارة عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإبهام وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارئ ، ومنه { وكان الله غفورا رحيما } ، وقال ابن معط في ألفيته " : وكان للماضي الذي ما انقطعا وحكى ابن الخباز في شرحها قولا أنها تفيد الاستمرار محتجا بالآية ، وسمعت شيخنا أبا محمد بن هشام - رحمه الله - ينكره عليه ، ويقول : غره فيه عبارة ابن معط ، ولم يصر إليه أحد ، بل الخلاف في أنها تفيد الانقطاع أو لا تقتضي الانقطاع ولا عدمه ، وأما إثبات قوله بالاتصال والدوام فلا يعرف .

                                                      قلت : وقال الأعلم : تأتي للأمرين ، فالانقطاع نحو كنت غائبا ، وأما الآن حاضر ، والاتصال كقوله تعالى : { وكان الله غفورا رحيما } وهو في كل حال موصوف بذلك . وهاهنا قاعدة من قواعد التفسير : وهي أنه وقع في القرآن إخبار الله عن صفاته الذاتية وغيرها بلفظ " كان " كثيرا { كان الله سميعا عليما } { واسعا حكيما } { غفورا رحيما } { توابا رحيما } وأنها لم تفارق ذاته ، ولهذا يقدرها بعضهم بما زال فرارا مما يسبق إلى الوهم من أن " كان " تفيد انقطاع المخبر به من الوجود ، كقولهم : دخل في خبر كان .

                                                      قالوا : فكان وما زال أختان فجاز أن تستعمل إحداهما في معنى الأخرى مجازا بالقرينة ، وهو تكلف لا حاجة إليه ، وإنما معناها ما ذكرنا من أزلية الصفات ثم يستفيد معناها من الحال ، وفيما لا يزال بالأدلة [ ص: 255 ] العقلية باستصحاب الحال وحيث الإخبار بها عن صفة فعلية ، فالمراد تارة الإخبار عن قدرته عليها في الأزل ، نحو كان الله خالقا ورزاقا ومحييا ومميتا ، وتارة تحقيق نسبته إليه نحو { وكنا فاعلين } وتارة ابتداء الفعل وإنشاؤه ، نحو { وكنا نحن الوارثين } فالإرث إنما يكون بعد موت المورثين ، والله - سبحانه وتعالى - مالك كل شيء على الحقيقة من قبل ومن بعد ، وحيث أخبر بها عن صفات الآدميين فالمراد بها التنبيه على أنها غريزية وطبيعية نحو { وكان الإنسان عجولا } { إنه كان ظلوما جهولا } ويدل عليه { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا } أي : خلق على هذه الصفة ، وهي حال مقدرة ، أو بالقوة لم يخرج إلى الفعل ، وحيث أخبر بها عن أفعاله دلت على اقتران مضمون أمر الجملة بالزمان نحو { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } ومن هذا الثاني الحكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ " كان " نحو كان يقوم ، وكان يفعل . وسنتكلم عليه في باب العموم إن شاء الله تعالى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية