الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب التاسع: ضابط ما تصح هبته

        اختلف العلماء في هذا الضابط على قولين:

        القول الأول: أنه كل عين تصح عاريتها.

        وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الوقف، فالهبة من باب أولى.

        القول الثاني: أنه ما صح بيعه صحت هبته.

        وهو قول جمهور أهل العلم: الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

        [ ص: 71 ] والمالكية يتوسعون في ذلك، فيجوزون هبة ما فيه غرر كمجهول، ونحوه، وإن لم يجز بيعه.

        قال السيوطي: "ما جاز بيعه جاز هبته، وما لا فلا".

        قال البهوتي: "وما لا يصح بيعه لا تصح هبته على المذهب، اختاره القاضي، وقدمه في الفروع".

        الأدلة:

        دليل القول الأول:

        يستدل لهذا القول بما يلي:

        1 - عمومات أدلة الهبة.

        وهذه تشمل بعمومها كل عين تصح عاريتها.

        2 - أن الأصل صحة الهبة، فلا يمنع من بعض صوره إلا بدليل.

        3 - أن من مقاصد الهبة نفع الموهب، وهذا يتفق مع ما يصح إعارته; لأن العارية إباحة التصرف في المنافع من قبل المعير.

        دليل القول الثاني:

        استدل لهذا الرأي بما يلي:

        أن الهبة نقل للملك في الحياة فأشبه البيع، فدل على أنه لا يصح إلا في عين يصح بيعها.

        ويناقش: بأن تشبيه الهبة بالبيع لا يسلم به; إذ البيع معاوضة والهبة [ ص: 72 ] تبرع، وثم فرق بين المعاوضة والتبرع، فإن التبرع لا يشترط فيه كل ما يشترط للمعاوضة، من العلم، والقدرة على التسليم، ونحو ذلك.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - أن يقال في ضابط ما يصح هبته: أن ما أبيح نفعه أبيحت هبته; لأن الأصل في الهبة الحل والصحة; ولأن الهبة فعل خير يكثر منه، ويحث عليه.

        ويترتب على هذا الخلاف مسائل:

        1 - هبة الكلب المعلم، والجوارح المعلمة، كما سيأتي في شروط صحة الهبة، شرط كون الهبة مالا شرعيا.

        2 - هبة ما لا يقدر على تسليمه، كما سيأتي في شروط صحة الهبة، شرط كون الموهوب مما يقدر على تسليمه.

        3 - هبة المجهول، والمعدوم.

        قال السيوطي: "قاعدة: ما جاز بيعه جاز هبته، وما لا فلا.

        ويستثنى من الأول ثلاث صور:

        المنافع تباع بالإجارة ولا توهب، وما في الذمة يجوز بيعه سلما لا هبة، كوهبتك ألف درهم في ذمتي، ثم يعينه في المجلس، صرح به القاضي حسين، والإمام وغيرهما، والمال الذي لا يصح التبرع به، ويجوز بيعه كمال المريض.

        ويستثنى من الثاني صور:

        منها: ما لا يصح بيعه لقلته كحبة حنطة ونحوها، قال النووي: يصح [ ص: 73 ] هبته بلا خلاف، لكن وقع في كلام الرافعي ما لا يتمول كحبة حنطة وزبيبة لا يباع ولا يوهب، وأسقطه من الروضة.

        قال الشيخ ولي الدين: والحق الجواز، وإليه مال السبكي، فإن الصدقة بتمرة تجوز، وهي نوع من الهبة.

        ومنها: لو جعل شاته أضحية لم يجز بيع نمائها من الصوف واللبن، وتصح هبته، قاله في البحر.

        ومنها: جلد الميتة قبل الدباغ تجوز هبته على الأصح في الروضة في باب الآنية; لأنها أخف من البيع.

        ومنها: لا يصح بيع المتحجر ما تحجره في الأصح; لأن حق الملك لا يباع ويجوز هبته، صرح به الدارمي.

        وعبارة الروضة عن الأصحاب: لو نقله إلى غيره صار الثاني أحق به.

        ومنها: الدهن النجس يجوز هبته، كما قاله في الروضة تفقها، وصرح به في البحر.

        ومنها: الكلب: يصح هبته، نص عليه الشافعي.

        ومنها: يصح هبة إحدى الضرتين نوبتها للأخرى قطعا، ولا يصح بيع ذلك، ولا مقابلته بعوض.

        ومنها: الطعام إذا غنم في دار الحرب تصح هبة المسلمين له بعضهم من بعض ليأكلوه في دار الحرب، لا تبايعهم إياه".

        [ ص: 74 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية