الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الفرار مجازا عن رد كلامه، عطف عليه ما يبينه، فقال مؤكدا لأن إعراضهم مع هذا الدعاء الطويل مما لا يكاد يصدق: وإني كلما على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات دعوتهم أي إلى الإقبال عليك بالإيمان [ بك -] والإخلاص لك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان إعراضهم عما ينفعهم أقبح، ذكر ما يتسبب عن الإجابة بالإيمان فقال: لتغفر لهم أي ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه [ في -] حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحدود محوا بالغا فلا [ يبقى -] لشيء من ذلك عينا ولا أثرا حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم جعلوا أي في كل دعاء، ودل على مبالغتهم في التصامم بالتعبير بالكل عن البعض فقال: أصابعهم كراهة له واحتقارا للداعي في آذانهم حقيقة لئلا يسمعوا الدعاء إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا، ودلوا على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: واستغشوا ثيابهم أي أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم إيجاد من هو طالب لذلك شديد الرغبة فيه حتى يجمعوا بين ما يمنع السماع [ ص: 432 ] لكلامه والنظر إليه إظهارا لكراهته وكراهة كلامه، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائما وأصروا أي داموا على سوء أعمالهم دواما هم في غاية الإقبال عليه، من أصر الحمار على العانة - إذا صر أذنيه وأقبل عليها يطردها ويكدمها، استعير للإقبال على المعاصي وملازمتها لأنه يكون بغاية الرغبة كأن فاعله حمار وحش قد ثارت شهوته واستكبروا أي أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه، وأكد ذلك بقوله: استكبارا تنبيها على أن فعلهم منابذ للحكمة، فكان مما ينبغي أن لا يفعلوه فهو مما لا يكاد يصدق لذلك، وقد نادت هذه الآيات بالتصريح في غير موضع بأنهم عصوا نوحا عليه الصلاة والسلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهرا بتعطيل الأسماع والأبصار، وباطنا بالإصرار والاستكبار ولم يوافقوه بقول ولا فعل، فلعنة الله عليهم وعلى من يقول: إنهم وافقوه بالفعل، لأنه دعاهم للمغفرة وقد غطوا وجوههم، والتغطية هي الغفر [ ص: 433 ] ونحو ذلك من الخرافات التي لو سمعها أسخف عباد الحجارة الذين لا أسخف منهم لهزؤوا بقائلها، وما قال هذا القائل ذلك إلا تحريفا لكتاب الله بنحو تحريف الباطنية الذين أجمعت الأمة على تكفيرهم لذلك التحريف، ولعنة الله على من يشك في كفر من يحرف هذا التحريف أو يتوقف في لعنه، وهم الاتحادية الذين مرقوا من الدين في آخر الزمان، ومن أكابرهم الحلاج وابن عربي وابن الفارض، وتبعهم على مثل الهذيان أسخف الناس عقولا

                                                                                                                                                                                                                                      إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ولقد أخبرني الإمام العلامة برهان الدين [ إبراهيم -] بن أبي شريف القدسي الشافعي الثبت النحرير عن بعض من يتعصب لهم في هذا الزمان، وهو من أعيان المدرسين بالقاهرة، أنه قال [ له-] : ما حملني على انتقادي لابن الفارض إلا أني رأيت كلام التائية له متناقضا، فتارة يفهم منها الحلول وتارة الاتحاد، وهو عندي يحاشى عن ذلك، فعلمت أن لهؤلاء القوم اصطلاحا نسبتنا منه نسبة التباين إذا سمعوا النحوي يقول: الفاعل مرفوع، فإنهم يضحكون منه، ولو فهمنا اصطلاحهم لم نعترض - هذا معنى ما نقل عنه وهو ما لا يرضاه ذو مسكة، وهو شبيه بما نقل المسعودي في أوائل مروج الذهب عن بعض من اتهم بعقل وعلم من النصارى في زمن أحمد بن [ ص: 434 ] طولون، فاختبره فوجده في العلم كما وصف، فسأله عن سبب ثباته على النصرانية مع علمه فقال: السبب تناقضها مع أنه دان بها ملوك متكبرون وعلماء متبحرون ورهبان عن الدنيا معرضون [ و-] مدبرون، فعلمت أنه ما جمع هؤلاء الأصناف على الدينونة بها مع تناقضها إلا أمر عظيم اضطرهم لذلك، فدنت بها، فقال له: اذهب في لعنة الله فلقد ضيعت كل عقل وصفت ، ولقد والله صدق في الأمر العظيم الذي حملهم على ذلك، وهو القضاء والقدرة الذي [ حمل -] كل أحد منهم على إلقاء نفسه في نار جهنم باختياره بل برغبته في ذلك ومقاتلة من يصده عن ذلك، وذلك أدل دليل على تمام علم الله وقدرته وأنه واحد لا شريك له ولا معقب لحكمه، وفي هذا تصديق قوله النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع" وهم أهل الكتاب، وقد أشبعت القول في هذا في كتابي "القارض في تكفير ابن الفارض" الذي بينت فيه عوارهم، وأظهرت عارهم، وكذا كتابي "صواب الجواب للسائل [ المرتاب-] " و "تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض" ولم أبق على شيء من ذلك [ ص: 435 ] شيئا من لبس - ولله الحمد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية