الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 413 ] باب ما يبطل به الشفعة قال ( وإذا ترك الشفيع الإشهاد حين علم بالبيع وهو يقدر على ذلك بطلت شفعته ) لإعراضه عن الطلب وهذا لأن الإعراض إنما يتحقق حالة الاختيار وهي عند القدرة ( وكذلك إن أشهد في المجلس ولم يشهد على أحد [ ص: 414 ] المتبايعين ولا عند العقار ) وقد أوضحناه فيما تقدم قال ( وإن صالح من شفعته على عوض بطلت شفعته ورد العوض ) لأن حق الشفعة ليس بحق متقرر في المحل ، بل هو مجرد حق التملك فلا يصح الاعتياض عنه ، ولا يتعلق إسقاطه بالجائز من الشرط فبالفاسد أولى فيبطل الشرط ويصح الإسقاط [ ص: 415 - 416 ]

وكذا لو باع شفعته بمال لما بينا ، بخلاف القصاص لأنه حق متقرر ، وبخلاف الطلاق والعتاق لأنه اعتياض عن ملك في المحل ونظيره إذا قال للمخيرة اختاريني بألف أو قال العنين لامرأته اختاري ترك الفسخ بألف فاختارت سقط الخيار ولا يثبت العوض ، والكفالة بالنفس في هذا بمنزلة الشفعة في رواية ، وفي أخرى : لا تبطل الكفالة ولا يجب المال وقيل هذه رواية في الشفعة ، وقيل هي في الكفالة خاصة وقد عرف في موضعه قال ( وإذا مات الشفيع بطلت شفعته ) وقال الشافعي : تورث عنه .

قال رضي الله عنه : معناه إذا مات بعد البيع قبل القضاء بالشفعة ، أما إذا مات [ ص: 417 ] بعد قضاء القاضي قبل نقد الثمن وقبضه فالبيع لازم لورثته ، وهذا نظير الاختلاف في خيار الشرط وقد مر في البيوع ، ولأنه بالموت يزول ملكه عن داره ويثبت الملك للوارث بعد البيع وقيامه وقت البيع وبقاؤه للشفيع إلى وقت القضاء شرطا فلا يستوجب الشفعة بدونه ( وإن مات المشتري لم تبطل ) لأن المستحق باق ولم يتغير سبب حقه ، ولا يباع في دين المشتري ووصيته ، ولو باعه القاضي أو الوصي أو أوصى المشتري فيها بوصية فللشفيع أن يبطله ويأخذ الدار لتقدم حقه ولهذا ينقض تصرفه في حياته قال ( وإذا باع الشفيع ما يشفع به قبل أن يقضى له بالشفعة بطلت شفعته ) لزوال سبب الاستحقاق قبل التملك وهو الاتصال بملكه ولهذا يزول به وإن لم يعلم بشراء المشفوعة كما إذا سلم صريحا أو إبراء عن الدين وهو لا يعلم به ، وهذا بخلاف ما إذا باع الشفيع داره بشرط الخيار له لأنه يمنع الزوال فبقي الاتصال قال ( ووكيل البائع إذا باع وهو الشفيع فلا شفعة له ، ووكيل المشتري إذا ابتاع فله [ ص: 418 ] الشفعة ) والأصل أن من باع أو بيع لا شفعة له ، ومن اشترى أو ابتيع له فله الشفعة ، لأن الأول بأخذ المشفوعة يسعى في نقض ما تم من جهته وهو البيع ، والمشتري لا ينقض شراؤه بالأخذ بالشفعة لأنه مثل الشراء ( وكذلك لو ضمن الدرك عن البائع وهو الشفيع فلا شفعة له ) وكذلك إذا باع وشرط الخيار لغيره فأمضى المشروط له الخيار البيع وهو الشفيع فلا شفعة له ، لأن البيع تم بإمضائه ، بخلاف جانب المشروط له الخيار من جانب المشتري

[ ص: 413 ]

التالي السابق


[ ص: 413 ] باب ما يبطل به الشفعة )

لما كان بطلان الشيء يقتضي سابقة ثبوته ذكر ما يبطل به الشفعة بعد ذكر ما يثبت به الشفعة

( قوله وإذا ترك الشفيع الإشهاد حين علم البيع وهو يقدر على ذلك بطلت شفعته لإعراضه عن الطلب ) فإن قيل : جعل ترك الإشهاد هاهنا مبطلا للشفعة وذكر قبل هذا في باب طلب الشفعة أن الإشهاد ليس بلازم ، وإنما هو لنفي التجاحد ، وكذلك ذكر في الذخيرة وغيرها أن الإشهاد ليس بشرط ، وإنما ذكر أصحابنا الإشهاد عند هذا الطلب في الكتب بطريق الاحتياط ، حتى لو أنكر المشتري هذا الطلب يتمكن الشفيع من إثباته لا لأنه شرط لازم ولما لم يكن الإشهاد شرطا لازما لم يكن تركه مبطلا للشفعة فما وجه التوفيق بينهما ؟ قلنا : يحتمل أن يريد بهذا الإشهاد نفس طلب المواثبة ، ولكن لما كان طلب المواثبة لا ينفك عن الإشهاد في حق علم القاضي سمى هذا الطلب إشهادا ، والدليل على هذا ما ذكره من التعليل في حق ترك طلب المواثبة مثل ما ذكره من التعليل هاهنا .

كذا في النهاية ومعراج الدراية واكتفى تاج الشريعة وصاحب الكفاية بتفسير الإشهاد المذكور هاهنا بطلب المواثبة حيث قالا : وإذا ترك الشفيع الإشهاد : أي طلب المواثبة واستغنوا بهذا التفسير عن التعرض لتفصيل السؤال والجواب بالكلية وفسره صاحب العناية أيضا بما فسراه به ولكن قال بعده : وإنما فسرنا بذلك لئلا يرد ما ذكر قبل هذا أن الإشهاد ليس بشرط ، فإن ترك ما ليس بشرط في شيء لا يبطله ويعضده قول المصنف من قبل : والمراد بقوله في الكتاب أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة طلب المواثبة .

وقوله هاهنا لإعراضه عن الطلب إلى هنا كلامه أقول : فيه خلل ، لأن جعل قول المصنف هنا لإعراضه عن الطلب عاضدا : أي معينا لكون المراد بالإشهاد المذكور في الكتاب هاهنا نفس طلب المواثبة ، صحيح ، إذ لو كان الإشهاد هاهنا على معناه الظاهري لقال في تعليل بطلان الشفعة بتركه لإعراضه عن الإشهاد دون أن يقال لإعراضه عن الطلب ، وهو الذي أشار إليه صاحب النهاية ومعراج الدراية بقولهما والدليل عليه ما ذكره من التعليل في حق ترك طلب المواثبة [ ص: 414 ] مثل ما ذكره من التعليل هاهنا ا هـ .

وأما جعل قول المصنف من قبل والمراد بقوله في الكتاب أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة طلب المواثبة عاضدا أيضا لذلك فليس بصحيح ، إذ لا يذهب على ذي مسكة أن مراد المصنف هناك بقوله المذكور هو أن المراد بقوله في الكتاب على المطالبة طلب المواثبة لا طلب التقرير ، وليس مراده أن المراد بقوله في الكتاب أشهد على طلب المواثبة ، إذ لو كان كذلك لكان معنى ما في الكتاب طلب في مجلسه ذلك على المطالبة وفساده من حيث اللفظ والمعنى غير خاف على أحد ، والمفسر هاهنا بطلب المواثبة نفس الإشهاد فأين هذا من ذلك وكيف يتصور أن يكون أحدهما عاضدا للآخر

( قوله وإن صالح من شفعته على عوض بطلت الشفعة ورد العوض ، لأن حق الشفعة ليس بحق متقرر في المحل بل هو مجرد حق التملك فلا يصح الاعتياض عنه ، ولا يتعلق إسقاطه بالجائز من الشرط فبالفاسد أولى فيبطل الشرط ويصح الإسقاط ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام : وإن صالح من شفعته على عوض بطلت الشفعة ورد العوض أما بطلان الشفعة فلأن حق الشفعة ليس بحق متقرر في المحل لأنه مجرد حق التملك ، وما ليس بحق متقرر في المحل لا يصح الاعتياض عنه وأما رد العوض فلأن حق الشفعة إسقاط لا يتعلق بالجائز من الشرط : يعني الشرط الملائم ، وهو أن يعلق إسقاطه بشرط ليس فيه ذكر المال ، مثل قول الشفيع للمشتري سلمتك شفعة هذه الدار إن أجرتنيها أو أعرتنيها ، فبالفاسد وهو ما ذكر فيه المال أولى ا هـ كلامه .

أقول : هذا شرح سقيم غير مطابق للمشروح ، لأنه وزع تعليل المصنف بقوله لأن حق الشفعة ليس بحق متقرر [ ص: 415 ] في المحل إلخ إلى قوله بطلت الشفعة وإلى قوله ورد العوض ، فجعل قوله لأن حق الشفعة إلى قوله فلا يصح الاعتياض عنه دليلا على قوله بطلت الشفعة ، وجعل قوله ولا يتعلق إسقاطه إلخ دليلا على قوله ورد العوض بطريق اللف والنشر المرتب ولا يخفى على ذي فطرة سليمة متأمل في كلام المصنف بأدنى تأمل أن حق التوزيع على عكس ذلك ، وهذا مع كونه مما يدل عليه قطعا معنى المقام يرشد إليه جدا التفريعان المذكوران في ذيل الدليلين الحاصلين من التوزيع : أعني قوله فلا يصح الاعتياض عنه في الأول وقوله فيبطل الشرط ويصح الإسقاط في الثاني تبصر واعترض صاحب غاية البيان على قول المصنف ولا يتعلق إسقاطه بالجائز من الشرط فبالفاسد أولى حيث قال : ولنا فيه نظر ، لأن إسقاط حق الشفعة يتعلق بالجائز من الشرط ، ألا يرى إلى ما قال محمد في الجامع الكبير : لو قال الشفيع سلمت شفعة هذه الدار إن كنت اشتريتها لنفسك وقد اشتراها لغيره ، أو قال للبائع سلمتها لك إن كنت بعتها لنفسك وقد باعها لغيره فهذا ليس بتسليم ، وذلك لأن الشفيع علق التسليم بشرط ، وصح هذا التعليق لأن تسليم الشفعة إسقاط محض كالطلاق والعتاق ولهذا لا يرتد بالرد ، وما كان إسقاطا محضا صح تعليقه بالشرط وما صح تعليقه بالشرط لا يترك إلا بعد وجود الشرط فلا يترك التسليم ا هـ .

قال الشارح العيني بعد نقل هذا النظر عن صاحب الغاية : قلت : استخراج هذا النظر الغير الوارد من قول الشيخ أبي المعين النسفي في شرح الجامع الكبير حيث قال فيه : فإن قيل : إذا لم يجب العوض يجب أن لا تبطل الشفعة أيضا ، لأنه إنما أبطل حقه بشرط سلامة العوض ، فإذا لم يسلم وجب أن لا تبطل كما في الكفالة إذا صالح الكفيل المكفول له على مال حتى يبرئه من الكفالة لما لم يجب العوض لم تثبت البراءة .

قيل له بأن المال لا يصلح عوضا عن الشفعة فصار كالخمر والخنزير في باب الخلع والصلح عن دم العمد وثمة يقع الطلاق ويسقط القصاص إذا وجد القبول من المرأة والقاتل ولم يجب شيء ، كذا هنا وأما الصلح عن الكفالة بالنفس فكذلك على ما ذكر محمد في كتاب الشفعة من المبسوط ، وكتاب الكفالة والحوالة من المبسوط في رواية أبي حفص ، وعلى ما ذكر في كتاب الحوالة والكفالة من المبسوط في رواية أبي سليمان لا يبرأ ، ويحتاج إلى الفرق ، والفرق أن حق الشفيع قد سقط بعوض معنى فإن الثمن سلم له ، فإنه متى أخذ الدار بالشفعة وجب عليه الثمن فمتى سلم له الثمن فقد سلم له نوع عوض بإزاء التسليم فلا بد من القول بسقوط حقه في الشفعة فأما المكفول له فلم يرض بسقوط حقه عن الكفيل بغير عوض ولم يحصل له عوض أصلا فلا يسقط حقه في الكفالة ا هـ .

ومن هذا الجواب يحصل الجواب عن النظر المذكور ; إلى هنا لفظ شرح العيني أقول : لا يذهب عليك أنه لا يحصل من الجواب المذكور في كلام الشيخ أبي المعين الجواب عن النظر المذكور ، بل لا مساس له بذلك لأن ما وقع من السؤال والجواب في كلام الشيخ أبي المعين متعلق بأصل المسألة ، والنظر المذكور متعلق بمقدمة الدليل وهي قوله ولا يتعلق إسقاطه بالجائز من الشرط فأحدهما بمعزل عن الآخر ، كيف لا وقد ذكر صاحب الغاية أولا كلام الشيخ أبي المعين بتمامه نقلا عنه حيث قال : وأورد الشيخ أبو المعين النسفي في شرح الجامع سؤالا وجوابا في هذا الموضع قال : فإن قيل : إذا لم يجب العوض يجب أن لا تجب شفعته أيضا إلى آخر كلامه ، ثم أورد نظره المذكور في حاشية أخرى ، ولم يجب عنه ; فبينهما بون لا يخفى ثم قال صاحب العناية : وقوله على عوض إشارة إلى أن الصلح إذا كان على بعض الدار صح ولم تبطل الشفعة لأن ذلك على وجهين : أحدهما أن يصالحه على أخذ نصف الدار بنصف الثمن ، وفيه الصلح جائز لفقد الإعراض .

والثاني أن يصالحه على أخذ بيت بعينه من الدار بحصته من الثمن ، والصلح فيه لا يجوز لأن حصته مجهولة وله الشفعة لفقد الإعراض ا هـ .

أقول : فيه بحث ، أما أولا فلأنا لا نسلم أن في قوله على عوض إشارة إلى أن الصلح إذا كان على بعض الدار صح ولم تبطل الشفعة ، إذ لا يتصور إشارة قوله المذكور إلى ذلك إلا بطريق مفهوم المخالفة ، ولا شك أن مفهوم قوله على عوض بطريق المخالفة هو معنى بلا عوض ، وهو يعم بعض الدار وكل الدار وما ليس بدار ولا عوض أصلا ، إذ لا يصلح شيء منهما لأن يكون عوضا فيصير الصلح [ ص: 416 ] في جميع هذه الصور بلا عوض ، وأن مفهوم قوله في جواب المسألة بطلت الشفعة ورد العوض يعم أيضا ما صح الشرط وبطلت الشفعة وما لم يصح الشرط ولم تبطل الشفعة وما صح الشرط والشفعة أيضا ، فمن بين هذه الاحتمالات كيف يحصل الإشارة إلى خصوص أن الصلح إذا كان على بعض الدار صح ولم تبطل الشفعة كما في الوجهين اللذين ذكرهما .

نعم الحكم في الوجهين المذكورين كما قاله على ما صرح به في المبسوط وعامة المعتبرات ، لكن الكلام في عدم تمام إشارة عبارة الكتاب إليه كما ادعاها صاحب العناية وأما ثانيا فلأن تعليل جواز الصلح في الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما بفقد الإعراض مما لا يكاد يتم ، لأن فقد الإعراض متحقق في الوجه الثاني منهما أيضا كما صرح به مع عدم جواز الصلح فيه لجهالة الحصة المشروطة في الصلح على ما نص عليه ، فالوجه في تعليل جواز الصلح في الوجه الأول أن يقال لكون الحصة معلومة تدبر

( قوله وكذا لو باع شفعته بمال لما بينا ) [ ص: 417 ] أشار به إلى قوله لأن حق الشفعة ليس بحق متقرر في المحل ، بل هو مجرد حق التملك فلا يصح الاعتياض عنه ، كذا في الشروح قال بعض الفضلاء : وأنت تعلم أن ما بينه لا يفي بتمام المدعى هنا ، إذ لا إسقاط في البيع فلا بد من ملاحظة مقدمة أخرى ا هـ .

أقول : نعم لا إسقاط في البيع الحقيقي ، وأما ما نحن فيه وهو بيع الشفعة بمال فليس ببيع حقيقة يعرف ذلك مما بينه من قبل وهو قوله لأن حق الشفعة ليس بحق متقرر ، إلى قوله فلا يصح الاعتياض عنه ، فإنه إذا لم يصح الاعتياض عنه لم يكن [ ص: 418 ] بيعا حقيقيا لأنه من المعاوضات المالية ولم يكن أيضا شيئا من المعاوضات أصلا فلا جرم كان إسقاطا فتم به المطلوب هنا ، وعن هذا قال في المبسوط : لو باع شفعته بمال كان تسليما ، لأن البيع تمليك مال بمال وحق الشفعة لا يحتمل التمليك فيصير كلامه عبارة عن الإسقاط مجازا كبيع الزوج زوجته من نفسها ا هـ




الخدمات العلمية