الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 441 ] 543 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : اللهم إن فلانا هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فأهجوه ، فالعنه عدد ما هجاني ، أو مكان ما هجاني

قال أبو جعفر : قد ذكرنا هذا الحديث بإسناده فيما تقدم منا في كتابنا هذا ، فقال قائل : في هذا الحديث ما قد دل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان شاعرا لهجا ذلك الشاعر كما هجاه ، فكيف جاز لكم أن تقبلوا هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه التي تروونها عنه تدل على خلاف ذلك مما كان عليه ، فمما ذكر في ذلك .

3370 - ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم الأزدي ، قال : حدثنا سلام بن مسكين ، قال : حدثنا عقيل بن طلحة ، عن أبي جري الهجيمي ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا جري ، لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تصب من دلوك في دلو المستسقي ، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ، وإياك وإسبال الإزار ، فإنه من [ ص: 442 ] المخيلة ، والله لا يحب الخيلاء ، قلت : يا رسول الله ، الرجل يسبني بما في ، أسبه بما فيه ؟ قال : لا ، فإن أجر ذلك لك ، وإثمه ووباله عليه .

فكان في هذا الحديث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفح ، وترك السباب لمن سب ، والشعر من أكبر السب ، فمن أين جاز لكم أن ترووا عنه صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذه الأخلاق ؟

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن الذي توهمه في الحديث الأول ليس هو كما توهمه فيه ؛ لأن الذي فيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فلانا هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فأهجوه ، إنما وجه ذلك عندنا - والله أعلم - على نفي الشعر عنه ؛ لأن رتبته صلى الله عليه وسلم أجل من رتب الشعراء وهي أعلى رتب النبوة وتبليغ الرسالة عن الله عز وجل ، ولما كانت تلك منزلته في الرفعة ، وكان من هجاه منزلته المنزلة الوضيعة ، إذ كان من أهل السباب ، وكانوا مع ذلك إنما يهاجون إذا هجوا أكفاءهم ، فأما من سوى أكفائهم فإنهم لم يكونوا يهاجونهم ، فكانوا يرفعون أنفسهم عن ذلك ، ومن ذلك هجاء حسان بن ثابت لأبي [ ص: 443 ] سفيان بن الحارث لما هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

كما حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد ، قال : حدثنا مسلم بن خالد ، عن محمد بن السائب بن بركة ، عن أمه ، قالت : كنت عند عائشة في نسوة ، فذكر عندها حسان بن ثابت ، فوقعن فسببنه ، فقالت عائشة : لا تسبوه ، فقد أصابه ما قال الله عز وجل ، قد عمي ، والله إني لأرجو أن يدخله الله عز وجل الجنة بكلمات قالهن في محمد صلى الله عليه وسلم حين يقول لأبي سفيان بن الحارث :

هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء     فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء     أتهجوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء

[ ص: 444 ] قال أبو جعفر : ولما كان الأمر كما ذكرنا ، والمهاجاة من أهل الشرف إنما تكون منهم لأكفائهم لا لمن ليس كذلك ، كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه عنه في الحديث الذي ذكرنا في صدر هذا الباب لهذا المعنى ، وإعلاما منه الناس : أن الذي هجاه ليس بكفء له ، فيحتاج إلى أن يهجوه لو كان شاعرا ، ثم أتبع ما كان منه من هجائه إياه بسؤاله الله عز وجل أن يلعنه : ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية