الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 6258 ) مسألة قال : ( فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما ، لم يجتمعا أبدا ) . في هذه المسألة مسألتان : ( 6259 ) المسألة الأولى : أن الفرقة بين المتلاعنين لا تحصل إلا بلعانهما جميعا ، وهل يعتبر تفريق الحاكم بينهما ؟ فيه روايتان : إحداهما ، أنه معتبر فلا تحصل الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما . وهو ظاهر كلام الخرقي ، وقول أصحاب الرأي ; لقول ابن عباس في حديثه : ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما . وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله . وفي حديث عويمر ، قال : كذبت عليها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمسكتها . فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا يقتضي إمكان إمساكها ، وأنه وقع طلاقه ، ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك ، لما وقع طلاقه ، ولا أمكنه إمساكها .

                                                                                                                                            ولأن سبب هذه الفرقة يقف على الحاكم ، فالفرقة المتعلقة به لم تقع إلا بحكم الحاكم ، كفرقة العنة . والرواية الثانية ، تحصل الفرقة بمجرد لعانهما . وهي اختيار أبي بكر ، وقول مالك ، وأبي عبيد ، عنه وأبي ثور ، وداود ، وزفر ، وابن المنذر . وروي ذلك عن ابن عباس ; لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : المتلاعنان يفرق بينهما ، ولا يجتمعان أبدا . رواه سعيد . ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد ، فلم يقف على حكم الحاكم ، كالرضاع ، ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم ، لساغ ترك التفريق إذا كرهاه ، كالتفريق للعيب والإعسار ، ولوجب أن الحاكم إذا لم يفرق بينهما ، أن يبقى النكاح مستمرا ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا سبيل لك عليها } . يدل على هذا ، وتفريقه بينهما ، بمعنى إعلامه لهما بحصول الفرقة ، وعلى كلتا الروايتين ، لا تحصل الفرقة قبل تمام اللعان منهما .

                                                                                                                                            وقال الشافعي ، - رحمه الله تعالى - : تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده ، وإن لم تلتعن المرأة ; لأنها فرقة حاصلة بالقول ، فتحصل بقول الزوج وحده ، كالطلاق . ولا نعلم أحدا وافق الشافعي على هذا القول ، وحكي عن البتي أنه لا [ ص: 53 ] يتعلق باللعان فرقة ; لما روي أن العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا ، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو وقعت الفرقة ، لما نفذ طلاقه ، وكلا القولين لا يصح ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين .

                                                                                                                                            رواه عبد الله بن عمر ، وسهل بن سعد ، وأخرجهما مسلم . وقال سهل : فكانت سنة لمن كان بعدهما ، أن يفرق بين المتلاعنين . وقال عمر : المتلاعنان يفرق بينهما ، ثم لا يجتمعان أبدا . وأما القول الآخر ، فلا يصح ; لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ، ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما ، وإنما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمام اللعان منهما ، فالقول بوقوع الفرقة قبله ، تحكم يخالف مدلول السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة ; فإنه إما أيمان على زناها ، أو شهادة بذلك ، ولولا ورود الشرع بالتفريق بينهما ، لم يحصل التفريق ، وإنما ورد الشرع به بعد لعانهما ، فلا يجوز تعليقه على بعضه ، كما لم يجز تعليقه على بعض لعان الزوج ، ولأنه فسخ ثبت بأيمان مختلفين ، فلم يثبت بيمين أحدهما ، كالفسخ لتحالف المتبايعين عند الاختلاف ، ويبطل ما ذكروه بالفسخ بالعيب أو العتق ، وقول الزوج : اختاري . وأمرك بيدك . أو : وهبتك لأهلك أو لنفسك . وأشباه ذلك كثير . إذا ثبت هذا ، فإن قلنا : إن الفرقة تحصل بلعانهما . فلا تحصل إلا بعد إكمال اللعان منهما .

                                                                                                                                            وإن قلنا : لا تحصل إلا بتفريق الحاكم . لم يجز له أن يفرق بينهما إلا بعد كمال لعانهما ، فإن فرق قبل ذلك كان تفريقه باطلا ، وجوده كعدمه . وبهذا قال مالك . وقال الشافعي : لا تقع الفرقة حتى يكمل الزوج لعانه . وقال أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن : إذا فرق بينهما بعد أن لاعن كل واحد منهما ثلاث مرات ، أخطأ السنة ، والفرقة جائزة ، وإن فرق بينهما بأقل من ثلاث ، فالفرقة باطلة ; لأن من أتى بالثلاث فقد أتى بالأكثر ، فيتعلق الحكم به . ولنا أنه تفريق قبل تمام اللعان ، فلم يصح ، كما لو فرق بينهما لأقل من ثلاث ، أو قبل لعان المرأة ، ولأنها أيمان مشروعة ، لا يجوز للحاكم الحكم قبلها بالإجماع ، فإذا حكم ، لم يصح حكمه . كأيمان المختلفين في البيع .

                                                                                                                                            وكما قبل الثلاث ، ولأن الشرع إنما ورد بالتفريق بعد كمال السبب فلم يجز قبله ، كسائر الأسباب ، وما ذكروه تحكم لا دليل عليه ، ولا أصل له ، ثم يبطل بما إذا شهد بالدين رجل وامرأة واحدة . أو بمن توجهت عليه اليمين إذا أتى بأكثر حروفها ، وبالمسابقة إذا قال : من سبق إلى خمس إصابات . فسبق إلى ثلاثة ، وبسائر الأسباب ، فأما إذا تم اللعان فللحاكم أن يفرق بينهما من غير استئذانهما ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين ، ولم يستأذنهما . وروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، { أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وألحق الولد بالمرأة } . وروى سفيان ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد ، قال : { شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين } . أخرجهما سعيد .

                                                                                                                                            ومتى قلنا : إن الفرقة لا تحصل إلا بتفريق الحاكم . فلم يفرق بينهما ، فالنكاح باق بحاله ; لأن ما يبطل النكاح لم يوجد ، فأشبه ما لو لم يلاعن .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية