الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 462 ] كتاب المزارعة ( قال أبو حنيفة رحمه الله : المزارعة بالثلث والربع باطلة ) اعلم أن المزارعة لغة : مفاعلة من الزرع . وفي الشريعة : هي عقد على الزرع ببعض الخارج . وهي فاسدة عند أبي حنيفة ، وقال : هي جائزة لما روي أن { أن النبي عليه الصلاة والسلام عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع } [ ص: 463 ] ولأنه عقد شركة بين المال والعمل فيجوز اعتبارا بالمضاربة والجامع دفع الحاجة ، فإن ذا المال قد لا يهتدي إلى العمل والقوي عليه لا يجد المال ، فمست الحاجة إلى انعقاد هذا العقد بينهما بخلاف دفع الغنم والدجاج ودود القز معاملة بنصف الزوائد لأنه لا أثر هناك للعمل في تحصيلها فلم تتحقق شركة . وله ما روي { أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن المخابرة وهي المزارعة } ولأنه استئجار ببعض ما يخرج من عمله فيكون في معنى قفيز الطحان ، ولأن الأجر مجهول أو معدوم وكل ذلك مفسد ، ومعاملة النبي عليه الصلاة والسلام أهل خيبر كان خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز ( وإذا فسدت عنده فإن سقى الأرض وكربها ولم يخرج شيء منه فله أجر مثله ) لأنه في معنى إجارة فاسدة ، وهذا إذا كان البذر من قبل صاحب الأرض .

وإذا كان البذر من قبله فعليه [ ص: 464 ] أجر مثل الأرض والخارج في الوجهين لصاحب البذر لأنه نماء ملكه وللآخر الأجر كما فصلنا ، إلا أن الفتوى على قولهما لحاجة الناس إليها ولظهور تعامل الأمة بها . والقياس يترك بالتعامل كما في الاستصناع

التالي السابق


( كتاب المزارعة )

لما كان الخارج من الأرض في عقد المزارعة من أنواع ما يقع فيه القسمة ذكر المزارعة عقيب القسمة ، كذا في الشروح ( قوله قال أبو حنيفة : المزارعة بالثلث والربع باطلة ) قال في العناية : إنما قيد بالثلث والربع ليبين محل النزاع ، لأنه لو لم يعين أصلا أو عين دراهم مسماة كانت فاسدة بالإجماع انتهى . أقول : يرد على ظاهره أن المزارعة بالنصف وبالخمس وبغيرهما من الكسور محل النزاع أيضا فكيف يتبين بالتقييد بالثلث والربع محل النزاع ؟ فالوجه ما ذكر في سائر الشروح من أنه إنما قيد بالثلث والربع مع أنه لا تجوز المزارعة في جميع الصور عنده تبركا بلفظ الحديث فإنه جاء في الحديث { أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن المخابرة فقيل : وما المخابرة ؟ قال : المزارعة بالثلث والربع } وإنما خص في الحديث بذلك لمكان العادة في ذلك الوقت بذلك التقدير انتهى ، والذي يمكن في توجيه ما في العناية أن المقصود بقوله إنما قيد بالثلث والربع مقابلة التقييد بالإطلاق لا مقابلة التقييد بالتقييد : يعني أنه قيد بالثلث والربع ولم يطلق عن القيد بالكلية لا أنه قيد بهذا القيد المخصوص وهو الثلث والربع ولم يقيد بقيد آخر [ ص: 463 ] كالنصف وغيره ، لكن فيه ما فيه كما ترى ( قوله ولأنه عقد شركة بين المال والعمل فيجوز اعتبارا بالمضاربة ) قال تاج الشريعة : قلت الربح في المضاربة يحصل بمال من أحد الجانبين وبعمل من الجانب الآخر فتنعقد شركة بينهما في الربح وهنا كذلك انتهى .

أقول : لم يجز في المضاربة أن يكون المال والعمل من أحد الجانبين ولهذا قالوا هناك : وشرط العمل على رب المال مفسد للعقد وهنا جاز لما سيأتي في الكتاب أنه إذا كانت الأرض لواحد والعمل والبقر والبذر لواحد جازت المزارعة ولا شك أن البذر مال بل البقر أيضا مال وقد اجتمعا مع العمل في أحد الجانبين فكيف يتم اعتبار المزارعة مطلقا بالمضاربة فتأمل ( قوله لأنه لا أثر هناك للعمل في تحصيلها ) قال صاحب معراج الدراية في شرح هذا المحل : لأنه أي الزوائد على تأويل الزائد انتهى . أقول : هذا تعسف قبيح لا يقبله ذو فطرة سليمة عند مساغ أن يحمل الضمير في قوله لأنه على الشأن كما لا يخفى ( قوله ومعاملة النبي عليه الصلاة والسلام أهل خيبر كان خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز ) قال بعض الفضلاء : هذا مخالف لما أسلفه في باب العشر والخراج أن أرض العرب كلها أرض عشر . فإن خيبر من أرض العرب ا هـ .

أقول : كون خيبر من أرض العرب ممنوع ، كيف وقد تقرر في الباب المذكور أيضا أن أرض العرب لا يقر أهلها عليها على الكفر ، فإن مشركي العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وقد { أقر النبي عليه الصلاة والسلام أهل خيبر على أراضيهم على الكفر } ، وذكروا حد أرض العرب طولا وعرضا في الباب المذكور ، فمن أتقن ذاك في موضعه لعله يحكم بأن خيبر ليست من أرض العرب [ ص: 464 ] قوله والخارج في الوجهين لصاحب البذر لأنه نماء ملكه ) قيل قوله لأنه نماء ملكه منقوض بمن غصب بذرا فزرعه فإن الزرع له وإن كان نماء ملك صاحب البذر . وأجيب بأن الغاصب عامل لنفسه باختياره وتحصيله فكان إضافة الحادث إلى عمله أولى ، والمزارع عامل بأمر غيره فجعل العمل مضافا إلى الآمر . كذا في العناية وغيرها . أقول : النقض غير وارد أصلا ، والجواب غير دافع لما ذكر .

أما الأول فلأن الزرع في الصور المذكورة ليس بنماء ملك صاحب البذر وإنما هو نماء ملك الغاصب ، إذ قد مر في فصل ما يتغير بعمل الغاصب من كتاب الغصب أنه إذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب منه عنها وملكها الغاصب وضمنها عندنا . ومثل ذلك بأمثلة : منها ما إذا غصب حنطة فزرعها ، فقد تبين منه أن البذر بالغصب والزرع يصير ملك الغاصب فيكون الزرع نماء ملكه قطعا . وأما الثاني فلأن محل النقض إنما هو قوله لأنه نماء ملكه ، وما ذكر في الجواب لا يفيد الفرق بين الغاصب والمزارع من جهة مورد النقض ، وإنما يفيد الفرق بينهما من جهة كون أحدهما عاملا لنفسه باختياره والآخر عاملا بأمر غيره ، والكلام في الأول دون الثاني فلا يتم التقريب ( قوله إلا أن الفتوى على قولهما لحاجة الناس إليها ولظهور تعامل الأمة بها ، والقياس يترك بالتعامل كما في الاستصناع ) أقول : لقائل أن يقول : نعم إن القياس يترك بالتعامل ، ولكن النص لا يترك بذلك لأن التعامل إجماع عملي ، والإجماع لا ينسخ به الكتاب ولا السنة على ما عرف في علم الأصول .

فبقي تمسك أبي حنيفة رحمه الله بالسنة ، وهي ما روي { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المخابرة وهي المزارعة سالما عما يدفعه } فما وجه الفتوى على قولهما ، ويمكن أن يقال لهما أن يدفعا ذلك [ ص: 465 ] بحمل المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما إذا شرط في عقد المزارعة شرط مفسد ، إذ قد روي أنهم كانوا يشترطون فيه شيئا معلوما من الخارج لرب الأرض ونحو ذلك مما هو مفسد عندهما . وقد أشار إليه صاحب الكافي حيث قال : فإن قيل : التعامل على خلاف النص باطل . قلنا : النصوص الواردة في المجتهدات صور النصوص ، وإلا لا يحل لأحد الخلاف فيها أو تحملها على ما إذا شرط شرطا مفسدا ، فقد روي أنهم كانوا يشترطون فيها شيئا معلوما من الخارج لرب الأرض ونحو ذلك مما هو مفسد عندهما ، إلى هنا كلامه




الخدمات العلمية