الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الفصل الثاني .

في وجه التدريج إلى الإرشاد وترتيب درجات الاعتقاد .

اعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوء ليحفظه حفظا ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئا فشيئا فابتداؤه الحفظ ثم الفهم ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به وذلك مما يحصل في الصبي بغير برهان .

فمن فضل الله سبحانه على قلب الإنسان أن ، شرحه في أول نشوء للإيمان من غير حاجة إلى حجة وبرهان وكيف ينكر ذلك وجميع عقائد العوام مباديها التلقين المجرد والتقليد المحض نعم ، يكون الاعتقاد الحاصل بمجرد التقليد غير خال عن نوع من الضعف في الابتداء على معنى أنه يقبل الإزالة بنقيضه لو ألقي إليه ، فلا بد من تقويته وإثباته في نفس الصبي والعامي حتى يترسخ ولا يتزلزل .

وليس الطريق في تقويته وإثباته أن أن يعلم صنعة الجدل والكلام بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره وقراءة الحديث ومعانيه .

ويشتغل بوظائف العبادات فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخا بما يقرع سمعه من أدلة القرآن وحججه وبما يرد عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها وبما يسطع عليه من أنوار العبادات .

التالي السابق


بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، الله ناصر كل صابر .

(الفصل الثاني) من الفصول الأربعة (في) بيان (وجه التدريج) والتمهل (إلى الإرشاد) والهداية (وترتيب درجات الاعتقاد) بالنسبة إلى أهل البداية والتوسط والنهاية (اعلم أن ما ذكرناه) آنفا (في ترجمة العقيدة) المختصرة (ينبغي أن يقدم) ذلك (إلى الصبي) وهو الغلام الصغير بتعليمه إياها (في أول نشأة) أي: في حال صباه؛ (ليحفظه) في صدره (حفظا) يأمن به عن الإغفال عنه، ويتمكن ذلك المحفوظ في باطنه؛ حتى يكون نقشا على الحجر، ولا يطرأ عليه ما يخالفه (ثم لا يزال) مستمرا على ذلك حتى (ينكشف له معناه) وسره وحقيقته (في) حالة (كبره) وهو البلوغ وما بعده (شيئا فشيئا) ، وهذا هو التدريج والترتيب المشار إليهما (فابتداؤه) في حقه وحق غيره (الحفظ) بضبط صورها المدركة في النفس، وبتعهدها ورعايتها (ثم الفهم) بالتحقق في معانيها (ثم الاعتقاد) أي: عقد القلب بإثباتها في النفس (والإيقان) بها (والتصديق) لما فيها، فهذه ثلاثة مراتب: الأولى: الفهم، أي: لمعانيها الحاصلة من ظواهر تلك الألفاظ [ ص: 43 ] الثانية: عقد القلب على ذلك المعنى الذي فهمه، الثالثة: التصديق بذلك بأنه حق بالمعنى الذي أراده الله ورسوله على الوجه الذي قاله، وإن كان لا يقف على حقيقته، فالتصديق لا يكون إلا بعد التصور، والإيمان إنما يكون بعد التفهيم، ولا يعتقد صدق قائلها فيها إلا إذا فهم معاني ألفاظها؛ فلذلك قدم الفهم على الاعتقاد على التصديق .

(وذلك) القدر (مما يحصل) ويتيسر (في الصبي) والعامي (بغير برهان) ودليل (فمن فضل الله تعالى) وكمال نعمته (على قلب الإنسان، شرحه) وانفساحه (في أول نشئه) وظهوره (إلى الإيمان من غير حاجة إلى) إقامة (حجة) على إثباته (وبرهان) بإيراد الأدلة، الذي يقتضي الصدق أبدا; لأن التصديق بالأمور الجملية ليس بمحال، وكل عاقل يعلم أنه أريد بهذه الألفاظ معان، وأن كل اسم فله مسمى، إذا نطق به من أراد مخاطبة قوم قصد ذلك المسمى، فيمكنه أن يعتقد كونه كاذبا مخبرا عنه على خلاف ما هو عليه، ويمكنه أن يعتقد كونه صادقا مخبرا عنه على ما هو عليه؛ فهذا معقول على سبيل الإجمال يمكن أن يفهم من هذه الألفاظ أمورا جملية غير مفصلة، ويمكنه التصديق بها .

(وكيف ينكر ذلك وجميع عقائد العوام) من السوقة وأهل البادية (مباديها التلقين المجرد) عن الأدلة (والتعليم المحض) الخالص من غير أن يشوبه شيء آخر سواه (نعم، يكون الاعتقاد المحض الحاصل بمجرد التقليد) للغير (غير خال عن نوع من الضعف) والوهاء (في الابتداء) أي: في أول الأمر، لكن (على معنى أنه يقبل الإزالة بنقيضه لو ألقي إليه، فلا بد من تقويته وإثباته في نفس الصبي والعامي حتى يترشح) ذلك فيه (فلا يتزلزل) بالاضطراب (وليس الطريق في تقويته وإثباته) في نفسهما (أن يعلم) كل منهما (صنعة الجدل والكلام) كما هو المتبادر إلى الأذهان؛ إذ الكلام والجدل علم لفظي، وأكثره احتمال وهمي، وهو عمل النفس وتخليق الفهم .

(بل) طريقه اللائق لأحواله أن (يشتغل بقراءة القرآن) وفي نسخة: "بتلاوة القرآن"، وهي والقراءة مترادفان، ومنهم من فرق بينهما، كما تقدم آنفا، وهذا الاشتغال أعم من أن يكون حفظا في الصدر، أو التكرار فيه (و) معرفة (تفسيره) أي: الكشف عن معاني ظواهر ألفاظه على قدر ما يصل إليه فهمه (و) أن يشتغل في (قراءة الحديث) المجموع في كتب معلومة موثوق بها، ويمضي فيها بتلقي ذلك عن الشيوخ المعروفين بحملها (و) معرفة (معانيه) الظاهرة للأفهام (و) أن (يشتغل) مع ذلك (بوظائف العبادات) وأجلها المحافظة على الفرائض بواجباتها وأركانها وسننها، ولم يذكر الاشتغال بعلم الفقه؛ لأنه حاصل من القرآن والحديث، إذ كتب الحديث المؤلفة غالبها على ترتيب أبواب الفقه، وأن يشتغل في أثناء ذلك بمجالسة الأخيار الصالحين من أهل المعارف والأذواق الذين سيماهم في وجوههم من أثر السجود، وإذا ذكر الله (فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخا) وثباتا (بما يقرع سمعه من أدلة القرآن) الباهرة وحججه القاهرة، وقرعها للسمع كناية عن وصولها إليه بشدة (وبما يرد عليه من شواهد الأحاديث) الدالة على المقصود (وفوائدها) المستنبطة فيها (وبما يسطع عليه) أي: على قلبه ويلوح (من أنوار العبادات) أي: الحاصلة منها .




الخدمات العلمية