الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين

"خلف" معناه: حدث خلفهم وبعدهم "خلف" بإسكان اللام، يستعمل في الأشهر في الذم، ومنه قول لبيد :


ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب



وقد يستعمل في المدح، ومنه قول حسان :


لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ...     لأولنا في طاعة الله تابع



والخلف -بفتح اللام- يستعمل -في الأشهر- في المدح، قال أبو عبيدة ، والزجاج : وقد يستعمل في الذم أيضا، ومنه قول الشاعر:

[ ص: 79 ]

ألا ذلك الخلف الأعور



وقال مجاهد : المراد بالخلف هاهنا النصارى، وضعفه الطبري . وقرأ الحسن البصري : "ورثوا الكتاب" بضم الواو وشد الراء، وقوله: يأخذون عرض هذا الأدنى إشارة إلى الرشا والمكاسب الخبيثة، والعرض: ما يعرض ويعن ولا يثبت، و"الأدنى" إشارة إلى عيش الدنيا.

وقوله تعالى: ويقولون سيغفر لنا ذم لهم باغترارهم، وقولهم: "سيغفر" مع علمهم بما في كتاب الله من الوعيد على المعاصي وإصرارهم عليهم وأنهم إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها فهؤلاء عجزة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله"، وهم مصرون، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم.

وقوله تعالى: ألم يؤخذ عليهم الآية، تشديد في لزوم قول الحق على الله في الشرع والأحكام بين الناس، وأن لا تميل الرشا بالحكام إلى الباطل، و"الكتاب" يريد به التوراة، وميثاقها: الشدائد التي فيها في هذا المعنى، وقوله: أن لا يقولوا على الله إلا الحق يمكن أن يريد بذلك قولهم الباطل في حكومة مما يقع بين أيديهم، ويمكن أن يريد قولهم: "سيغفر لنا" وهم قد علموا الحق في نهي الله تبارك وتعالى عن ذلك، وقرأ جمهور الناس: "يقولوا" بياء من تحت، وقرأ الجحدري: "تقولوا" بتاء من فوق.

وقوله تعالى: ودرسوا معطوف على قوله: ألم يؤخذ الآية بمعنى المضي، ويقدر: أليس قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه؟ وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : "وادارسوا ما فيه"، وقال الطبري وغيره: قوله: "ودرسوا" معطوف على قوله: ورثوا الكتاب .

[ ص: 80 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وفي هذا نظر لبعد المعطوف عليه، لأنه قوله: "ودرسوا" يزول منه معنى إقامة الحجة بالتقدير الذي في قوله: "ألم" ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله: والدار الآخرة خير للذين يتقون . وقرأ جمهور الناس: "أفلا تعقلون" بالتاء من فوق، وقرأ أبو عمرو وأهل مكة: "يعقلون" بالياء من أسفل.

وقوله تعالى: والذين عطف على قوله: ( للذين يتقون ) . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص ، وأبو عمرو ، والناس: "يمسكون" بفتح الميم وشد السين، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبو العالية ، وعاصم وحده -في رواية أبي بكر -: "يمسكون" بسكون الميم وتخفيف السين، وكلهم خفف "ولا تمسكوا بعصم الكوافر"، إلا أبا عمرو فإنه قرأ: "ولا تمسكوا" بفتح الميم وشد السين، وقرأ الأعمش : "والذين استمسكوا" وفي حرف أبي: "والذين مسكوا"، وهما لغتان بمعنى واحد، قال كعب بن زهير :


فما تمسك بالعهد الذي زعمت ...     إلا كما تمسك الماء الغرابيل



أما إن شد السين يجري مع التعدي بالباء.

التالي السابق


الخدمات العلمية