الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 302 ] 54 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراد الله بقوله : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم هل هو عبد الله بن سلام أو من سواه ؟

331 - حدثنا يونس ، ويزيد بن سنان ، والربيع الجيزي ، وصالح بن عبد الرحمن ، وعمرو بن الحارث ، وإبراهيم بن أبي داود ، وفهد ، ومالك بن عبد الله بن سيف التجيبي أبو سعد ، قالوا : حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : سمعت مالكا يحدث عن أبي النضر ، عن عامر بن سعد ، عن سعد قال : ما سمعت النبي عليه السلام يقول { لأحد يمشي على الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزلت هذه الآية : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } .

فأنكر منكر أن يكون عبد الله بن سلام هو المراد بهذه الآية ، وذكر أن [ ص: 303 ] المراد بها سواه ، وأنها في سورة مكية ، وأن إسلام عبد الله فإنما كان بالمدينة ، وذكر في ذلك :

ما قد حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا الفريابي ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن عاصم ، عن الشعبي ، في قوله تعالى : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم قال : ليس عبد الله بن سلام ، آية مكية ، وإنما أسلم عبد الله بن سلام قبل وفاة النبي عليه السلام بعامين ، وما أنزل فيه شيء من القرآن ، وإنما أنزلت هذه الآية في رجل من بني إسرائيل آمن به قومه واستكبرتم أن تؤمنوا .

[ ص: 304 ] وقد وافق الشعبي في نفي هذه الآية أن تكون أنزلت في ابن سلام ، وفي نفي آية أخرى قد قال بعض الناس : إنها أنزلت فيه أيضا ، وهي قوله : قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب سعيد بن جبير .

كما حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر قال : سألت سعيد بن جبير عن قول الله تعالى : ومن عنده علم الكتاب قلت : هو ابن سلام ، قال : كيف يكون عبد الله بن سلام ، وهذه السورة مكية . قال : وكان سعيد يقرأ ( ومن عنده علم الكتاب ) " .

[ ص: 305 ] وكانوا يشدون ذلك بما يرويه عن ابن عباس . :

كما حدثنا أحمد بن أبي عمران ، حدثنا خلف بن هشام البزار ، حدثنا الخفاف ، عن هارون النحوي ، عن جعفر بن أبي وحشية ، عن ابن جبير ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : ( ومن عنده ) بكسرها ، ويقول : من عند الله علم الكتاب .

فتأملنا هذا الباب هل خالف فيه الشعبي وسعيد بن جبير أحدا من أمثالهما . ؟

فحدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا الفريابي ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وشهد شاهد من بني إسرائيل قال : هو عبد الله بن سلام .

وكما حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا أزهر بن سعد السمان ، حدثنا ابن عون ، عن الشعبي في هذه الآية : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله قال : يقولون : ابن سلام ، وكيف يكون ابن سلام ، وهذه الآية مكية ؟

[ ص: 306 ] قال ابن عون : فنبئت أن محمدا يعني : ابن سيرين قال : صدق ، هي مكية
. قال أبو جعفر : يعني السورة التي فيها تلك الآية ، وهي سورة الأحقاف ، ولكنها قد كانت تنزل الآية ، فيؤمر بها أن توضع في مكان كذا وكذا .

قال أبو جعفر : يعني أنه قد كانت الآية تنزل بالمدينة فيؤمر بوضعها في سورة قد كانت نزلت بمكة .

ثم رجعنا إلى حديث مالك الذي رويناه في أوائل الباب فكشفناه ، لنقف على حقيقته .

332 - فوجدنا ابن أبي داود ، وفهدا ، وعبد الرحمن بن عمرو بن صفوان النصري الدمشقي ، قد حدثونا قالوا : حدثنا أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني ، حدثنا مالك ، عن أبي النضر ، عن عامر بن سعد ، عن سعد قال : { ما سمعت النبي عليه السلام يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا عبد الله بن سلام } . ولم يذكر فيه نزول تلك الآية فيه .

فوقع في قلوبنا من ذلك شيء ، فكشفنا عنه أيضا حتى وقفنا على الحقيقة فيه بمن الله وعونه .

[ ص: 307 ]

333 - فوجدنا يونس قد حدثنا ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن مالك ، فذكر بإسناده مثله . قال فيه : قال مالك : وفيه نزلت : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم .

334 - ووجدنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قد حدثنا قال : حدثنا عمي ، ثم ذكر بإسناده مثله ، وبما أضافه إلى مالك فيه مثله .

فوقفنا بذلك على أن ذكر نزول هذه الآية في هذا الحديث ليس من كلام النبي عليه السلام ، ولا من كلام سعد ، وإنما هو من كلام مالك ، فخرج بذلك أن يكون فيه حجة على الشعبي ، وسعيد بن جبير في إثبات نزول هذه الآية أنه كان في عبد الله بن سلام .

ثم تأملنا ما قد روي في نزولها سوى هذا الحديث :

فوجدنا بكار بن قتيبة ، قد حدثنا قال : حدثنا سليمان بن داود صاحب الطيالسة ، حدثنا شعيب بن صفوان ، حدثنا عبد الملك بن عمير : أن الحجاج بن يوسف قال لمحمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام : لله أبوك ، تعلم حديثا حدثه أبوك عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين ؟ قال : أي حديث يرحمك الله ؟ فرب حديث حدث به ؛ قال : حديث المصريين لما حاصروا عثمان رضي الله عنه ؛ قال : قد علمت ذلك الحديث ، فحدثه به فكان فيه أنهم قالوا لعبد الله بن سلام لما حذرهم من قتل عثمان ، كذب اليهودي ، كذب اليهودي . فقال : كذبتم والله ، وأثمتم ما أنا [ ص: 308 ] بيهودي ، وإني لأحد المؤمنين يعلم ذلك الله ورسوله والمؤمنون ، وقد أنزل الله في كتابه : قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ، والآية الأخرى : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم .

فكان ما في هذا الحديث من إخبار ابن سلام بنزول هاتين الآيتين فيه أولى ، وكان بما نزل فيه أعلم ، ولم نجد أحدا من القراء الذين أضيفت القراءة إليهم من الآية التي تلونا ، وهو قوله : ومن عنده علم الكتاب إلا كذلك ، ولم نجد أحدا قرأها بالكسر إلا ابن عباس وابن جبير .

وقد حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا خلف ، قال : قرأ الأعمش : ومن عنده نصب ، وعاصم وحمزة كمثل ، ونافع كمثل ، وابن كثير كمثل ، وأبو عمرو كمثل .

وقد ذكرنا فيما تقدم منا في كتابنا مخرج قراءة عاصم ، ورجوعها إلى علي ، وإلى ابن مسعود ، وإلى زيد بن ثابت .

وقراءة نافع فقد كانت مأخوذة عن جماعة منهم : أبو جعفر [ ص: 309 ] يزيد بن القعقاع ، وكان أخذ أبي جعفر إياها من مولاه عبد الله بن عياش ، وكان أخذ عبد الله بن عياش إياها من أبي بن كعب . كذلك حدثني روح بن الفرج ، عن أحمد بن صالح أنه سمعه يقول ذلك .

وقراءة حمزة مأخوذة فيما حدثني ابن أبي عمران مما سمعه من خلف البزار ، أنه قرأ القرآن على سليم بن عيسى عشر مرات ، وأن سليما حدثه أنه قرأه على حمزة ، وأن حمزة ذكر أنه قرأ القرآن على رجلين وهما الأعمش ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، فما كان من قراءة ابن أبي ليلى فعلى حرف علي ، وما كان من قراءة الأعمش فعلى حرف ابن مسعود .

ومما أخذناه من قراءة حمزة عن غير ابن أبي عمران أن ابن أبي ليلى قرأ القرآن على أخيه عيسى بن عبد الرحمن ، وأن أخاه قرأه على أبيه ، وأن أباه قرأه على علي ، وأن الأعمش قرأه على يحيى بن وثاب ، وأن يحيى قرأه على عبيد بن نضيلة ، وأن عبيدا قرأه على علقمة بن قيس النخعي ، وأن علقمة قرأه على ابن مسعود رضي الله عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية