الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل

ثغر اللسان

ثم يقول : قوموا على ثغر اللسان ، فإنه الثغر الأعظم ، وهو قبالة الملك ، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه ، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه : من ذكر الله [ ص: 100 ] تعالى واستغفاره ، وتلاوة كتابه ، ونصيحة عباده ، والتكلم بالعلم النافع ، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان ، لا تبالون بأيهما ظفرتم :

أحدهما : التكلم بالباطل ، فإنما المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ، ومن أكبر جندكم وأعوانكم .

الثاني : السكوت عن الحق ، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس ، كما أن الأول أخ ناطق ، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم ، أما سمعتم قول الناصح : المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، والساكت عن الحق شيطان أخرس ؟

فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل ، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق ، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق .

واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم ، وأكبهم منه على مناخرهم في النار ، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر ؟

وأوصيكم بوصية فاحفظوها : لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة ، ويكون الآخر على لسان السامع فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها ويطلب من أخيه إعادتها ، وكونوا أعوانا على الإنس بكل طريق ، وادخلوا عليهم من كل باب ، واقعدوا لهم كل مرصد ، أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت : فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ سورة الأعراف 16 - 17 ] .

أوما تروني قد قعدت لابن آدم بطرقه كلها ، فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له بطريق غيره ، حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها ؟ وقد حذرهم ذلك رسولهم - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم : إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها ، وقعد له بطريق الإسلام ، فقال له : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك ؟ فخالفه وأسلم ، فقعد له بطريق الهجرة ، فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك ؟ فخالفه وهاجر ، فقعد له بطريق الجهاد ، فقال : أتجاهد فتقتل فيقسم المال وتنكح الزوجة ؟

فكهذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير ، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة ، وقولوا له في نفسه : أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل وتصير بمنزلته أنت وهو سواء ؟ أوما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه ، قال : هي أموالنا إذا أعطيناكموها صرنا مثلكم .

[ ص: 101 ] واقعدوا له بطريق الحج ، فقولوا : طريقه مخوفة مشقة ، يتعرض سالكها لتلف النفس والمال ، وهكذا فاقعدوا له على سائر طرق الخير بالتنفير عنها وذكر صعوبتها وآفاتها ، ثم اقعدوا لهم على طرق المعاصي فحسنوها في أعين بني آدم ، وزينوها في قلوبهم ، واجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء ، فمن أبوابهن فادخلوا عليهم ، فنعم العون هن لكم .

ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين ، فامنعوها أن تبطش بما يضركم وتمشي فيه .

النفس الأمارة

واعلموا أن أكبر أعوانكم على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة ، فأعيوها واستعينوا بها ، وأمدوها واستمدوا منها ، وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة ، فاجتهدوا في كسرها وإبطال قواها ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادها عنها ، فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمارة ، وانطاعت لكم أعوانها ، فاستنزلوا القلب من حصنه ، واعزلوه عن مملكته ، وولوا مكانه النفس الأمارة ، فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه وتحبونه ، ولا تجيئكم بما تكرهونه ألبتة ، مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها ، بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله ، فإن أحسستم من القلب منازعة إلى مملكته ، وأردتم الأمن من ذلك ، فاعقدوا بينه وبين النفس عقد النكاح ، فزينوها وجملوها ، وأروها إياه في أحسن صورة عروس توجد ، وقولوا له ذق طعم هذا الوصال والتمتع بهذه العروس كما ذقت طعم الحرب ، وباشرت مرارة الطعن والضرب ، ثم وازن بين لذة هذه المسألة ، ومرارة تلك المحاربة ، فدع الحرب تضع أوزارها ، فليست بيوم وتنقضي ، وإنما هو حرب متصل بالموت ، وقواك تضعف عن حرب دائم .

واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما :

أحدهما : جند الغفلة ، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى والدار الآخرة بكل طريق ، فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك ، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه ومن إغوائه .

الثاني : جند الشهوات ، فزينوها في قلوبهم ، وحسنوها في أعينهم ، وصولوا عليهم بهذين العسكرين ، فليس لكم في بني آدم أبلغ منهما ، واستعينوا على الغفلة بالشهوات ، وعلى الشهوات بالغفلة ، واقرنوا بين الغافلين ، ثم استعينوا بهما على الذاكر ، ولا يغلب واحد خمسة ، فإن مع الغافلين شيطانين صاروا أربعة ، وشيطان الذاكر معهم ، وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم - من ذكر الله ومذاكرة أمره ونهيه ودينه ، ولم تقدروا على تفريقهم - فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البطالين ، فقربوهم منهم ، وشوشوا عليهم بهم ، [ ص: 102 ] وبالجملة فأعدوا للأمور أقرانها ، وادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته ، فساعدوه عليها ، وكونوا له أعوانا على تحصيلها ، وإذا كان الله قد أمرهم أن يصبروا لكم ويصابروكم ويرابطوا عليكم الثغور ، فاصبروا أنتم وصابروا ورابطوا عليهم بالثغور ، وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب ، فلا تصطادوا بني آدم في أعظم من هذين الموطنين .

واعلموا أن منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب وسلطان غضبه ضعيف مقهور ، فخذوا عليه طريق الشهوة ، ودعوا طريق الغضب ، ومنهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب ، فلا تخلوا طريق الشهوة قلبه ، ولا تعطلوا ثغرها ، فإن لم يملك نفسه عند الغضب ، فإنه الحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة ، فزوجوا بين غضبه وشهوته ، وامزجوا أحدهما بالآخر ، وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب ، وإلى الغضب من طريق الشهوة .

واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين ، وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة ، وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب ، فبه قطعت أرحامهم ، وسفكت دماءهم ، وبه قتل أحد ابني آدم أخاه .

واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ، والشهوة تثور من قلبه ، وإنما تطفأ النار بالماء والصلاة والذكر والتكبير ، فإياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوء والصلاة ، فإن ذلك يطفئ عنهم نار الغضب والشهوة ، وقد أمرهم نبيهم بذلك فقال : إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ، أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه ، فمن أحس بذلك فليتوضأ .

وقال لهم : إنما تطفأ النار بالماء ، وقد أوصاهم الله أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة ، فحولوا بينهم وبين ذلك ، وأنسوهم إياه ، واستعينوا عليهم بالشهوة والغضب ، وأبلغ أسلحتكم فيهم وأنكاها : الغفلة واتباع الهوى . وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم ذكر الله ومخالفة الهوى ، فإذا رأيتم الرجل مخالفا لهواه فاهربوا من ظله ولا تدنوا منه .

والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه ويعينهم بها على نفسه ، فيقاتلون بسلاحه ، ويكون معهم على نفسه ، وهذا غاية الجهل .


ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه



ومن العجائب أن العبد يسعى بجهده في هوان نفسه ، وهو يزعم أنه لها مكرم [ ص: 103 ] ويجتهد في حرمانها أعلى حظوظها وأشرفها وهو يزعم أنه يسعى في حظها ، ويبذل جهده في تحقيرها وتصغيرها وتدنيسها ، وهو يزعم أنه يعليها ويرفعها ويكبرها .

وكان بعض السلف يقول في خطبته : ألا رب مهين لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم ، ومذل لنفسه وهو يزعم أنه لها معز ، ومصغر لنفسه وهو يزعم أنه لها مكبر ، ومضيع لنفسه وهو يزعم أنه مراع لحفظها ، وكفى بالمرء جهلا أن يكون مع عدوه على نفسه ، يبلغ منها بفعله ما لا يبلغه عدوه ، والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية