الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين

                                                          * * *

                                                          عاد القول إلى بني إسرائيل بعد أن ذكر اليهود والنصارى والصابئين ، لبيان أنه لا يصح أن ييئسوا من رحمة الله تعالى بعد ما كان منهم في ماضيهم ، وما يكون منهم في حاضرهم إن آمنوا بالله حق إيمانه ، وبالآخرة إيمان إذعان ورجاء إن أطاعوا ، وخوف العقاب إن عصوا .

                                                          بين الله تعالى حال اليهود في ماضيهم ويتحمله الذين حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنهم أقروهم عليه فكان الخطاب بما حصل من أسلافهم موجها أيضا لأخلافهم . قال تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه .

                                                          الطور هو الجبل الذي هو في سيناء ، فهو جبل معين ذكره الله تعالى في عدة آيات ، وهو منسوب إلى سيناء كما قال تعالى : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين

                                                          أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، والميثاق مفعال من الوثوق أي : وثقنا القول والأوامر التي أمر الله بها ونهى فيها ، وبين لهم عظمة قدرته وقوة عظمته ، وترهيبا لأمره بعد ترغيبهم فيه ، وفي هذا الرفع آية حسية تدل على رسالة موسى عليه السلام ، وأنه يتلقى أوامره من ربه ، إذ كانوا قد طلبوا رؤية ربهم فخروا صعقين ، فهذا ربهم يخاطبهم بآية ، ورفع الجبل هذا هو ما قاله الله تعالى في سورة الأعراف : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم

                                                          [ ص: 258 ] ولقد ذكر سبحانه وتعالى مضمون الميثاق إجمالا ، فقال خذوا ما آتيناكم بقوة ، أي بجد وإتقان ، وتعرف ، وعناية ، واذكروا ما فيه ، أي اجعلوه في ذاكرتكم دائما لا تغفلون عنه ، ولا تهملونه ، واجعلوه حاضرا دائما في قلوبكم لتعملوا به ، ويكون في وعيكم دائما ، ولقد ذكر بعض ما في هذا الميثاق بالتفصيل فقال تعالى : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون .

                                                          هذا هو بعض التفصيل لهذا الميثاق المحكم الذي واثقه الله عليهم مؤكدا ذلك التوثيق برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة يظلهم ، وطالبهم بأن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى من تكليفات ذكرنا بعضها ، بقوة ، أي بيقين وجزم وتصديق وإذعان ، وأن يقرن ذلك بالعمل ، فلا تأخذونه بيد ، وتردونه باليد الأخرى ، واذكروا ما فيه ، أي اجعلوه دائما في وعيكم وذاكرتكم وقلوبكم ، ولا تنسوه .

                                                          وإن ذكر الشريعة وأحكامها هو أساس تنفيذها ، وإن المسلمين اليوم قد عراهم ما أصاب في ماضيهم ، يحفظون القرآن ولا يعونه ، ويرددون حروفه ، ولا يتدبرونه ، ولقد روى مالك في موطئه عن ابن مسعود أنه قال : (سيأتي على الناس - زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه ، تحفظ فيه حروف القرآن ، وتضيع حدوده ، كثير من يسأل ، قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة ، ويقصرون الصلاة يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم ) . أي يتبعون أهواءهم ويتركون ما افترض عليهم .

                                                          كانت هذه الأوامر التي واثقهم الله تعالى عليها ، وأمرهم أن يذكروها دائما لأجل أن يتقوا الله تعالى أي يجعلونها وقاية لهم من ذنوبهم ، أو رجاء أن تمتلئ [ ص: 259 ] بتقوى الله تعالى قلوبهم ، وتغلب عليهم مخافة ربهم فلا يعصوه ، ويبادروا إلى طاعته ، ولذلك قال تعالى : (لعلكم تتقون ) أي ترجون التقوى والخوف منه .

                                                          ولكن كان هذا الميثاق الذي وثقه تعالى بأمر حسي ، لأنهم لا يعتبرون إلا بالمحسوسات مؤديا إلى أن يتقوه سبحانه بل إنهم تلقوا أمرا موثقا ذلك التوثيق ، مؤكدا ذلك التوكيد ، ولكنهم كعادتهم في استهانتهم بأمر الله ونهيه نسوه وتولوا عنه معرضين ; ولذلك قال تعالى : ثم توليتم من بعد ذلك التولي هو الإعراض ، وأصله الإدبار ، وأن يجعل جسمه موليا وجه من يطالبه بقول أو عمل ، والمعنى أنهم أعرضوا إعراضا شديدا واضحا ، كمن يعرض عن القول بتولية جسمه ، واتجاهه في اتجاه غير اتجاه من يواجهه بالقول ، ومعنى ذلك أنهم جعلوا الله وميثاقه وراءهم ، ودبر آذانهم . والتعبير هنا بـ " ثم " التي تدل على التراخي للإشارة إلى البعد عن الميثاق وموجبه ، وعملهم المناقض لأمر الله تعالى ، والإشارة فيها بالبعيد في قوله تعالى : ثم توليتم من بعد ذلك لبيان بعد عملهم ، عن الميثاق الذي أمرهم سبحانه وتعالى أن يأخذوه بقوة ، وأن يذكروه دائما وأن يكون في وعيهم في كل أحوالهم .

                                                          وإن ذلك التولي كان بالإعراض عما جاء في التوراة أو الألواح العشرة التي أخذوها بقوة ، وطولبوا بذكرها دائما ليمكنهم أن يعملوا بها ، وقد قال القفال الشاسي بعض ما تولوا به عن التوراة فقال : وإنهم بعد قبول التوراة ، ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة فحرفوا كلمها عن مواضعه ، وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، بعد أن كفروا بهم ، وعصوا أمرهم ، ومنه ما عمله أوائلهم ، ومنه ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم لأعاجيب البلاء يخالفون موسى ويعترضون عليه ، ويلقونه بكل أذى ، ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك ، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم ، وعوقبوا بالطاعون ، ثم نقل متأخروهم ما لا خفاء فيه ، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله .

                                                          [ ص: 260 ] هذه كلمات صورت توليهم عن الحق ، واستدباره في عامة أمورهم ، وكان منهم في عهد موسى وهو يكلمهم عن الله ، ويتولى تربيتهم وبث روح الإيمان في قلوبهم التي قست وكانوا صورة واضحة للناس الذين تغلب عليهم شقوتهم .

                                                          ولقد قال تعالى : فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر أي إذا كان ذلك كله منكم بعد ذلك التوثيق لأمر الله تعالى ونهيه ، وأمركم أن تأخذوه فإنه كان ينزل بكم الخسران المبين والعذاب المهين ، ولكن لولا فضل الله عليكم ورحمته . . و " لولا " هنا هي التي يقال فيها أنها حرف امتناع وجود أي حرف امتناع الجواب لوجود الشرط . والمعنى أنكم كنتم تستحقون بذلك عذاب الهون ، ولولا فضل الله أي إرادته أن يزيد خيره عليكم تمكينا لكم من فعل الخير بإمهالكم لكنتم من الخاسرين ، ولقد قال الراغب في تفسيره : الخاسر المطلق هو الذي خسر أعظم ما يقتنى ، وهو نعيم الأبد .

                                                          فالخاسرون : هم الذين خسروا أنفسهم ، بأن أوقعوها في الهلكة والعذاب .

                                                          وإن النص القرآني يفيد أن الله بفضله ورحمته أعطاهم مهلة ليتداركوا أمرهم ، ولم يكتبهم من الخاسرين .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية