الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 102 ]

( ( فكل من أول في الصفات كذاته من غير ما إثبات ) )      ( ( فقد تعدى واستطال واجترى
وخاض في بحر الهلاك وافترى ) )      ( ( ألم تر اختلاف أصحاب النظر
فيه وحسن ما نحاه ذو الأثر ) )      ( ( فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى
وصحبه فاقنع بهذا وكفى ) )

( ( فكل من أول في الصفات ) ) الثابتة للذات المقدسة عن سمات المحدثات ، والمراد بالتأويل هنا أن يراد باللفظ ما يخالف ظاهره ، أو صرف اللفظ عن ظاهره لمعنى آخر ، أو عن حقيقته لمجازه ، وهو في آيات الصفات المقدسة من المنكرات عند أئمة الدين من علماء السلف المعتبرين ، فإنا حيث أثبتنا ذاتا لا كالذوات ، فما المانع من إثبات صفات لا كصفات المحدثات ؟ فالكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ، فصفاته - تعالى - قديمة ثابتة ( كذاته ) - تعالى ، فليس لنا أن نتأول في صفات الله - تعالى - ولا في ذاته ، ( من غير ما ) ما زائدة تأكيد للنفي ولإقامة الوزن ، ( إثبات ) عن صاحب الشرع وأصحابه ، وأئمة التابعين المعتبرين من علماء السلف وأتباعهم ، فهم العمدة دون غيرهم . وعلم من النظم أن الله - سبحانه - يطلق عليه الذات ، كما يقال : إنه شيء لا كالأشياء ، والله ذات لا كالذوات ، بخلاف الماهية ، فأكثر المتكلمين [ ص: 103 ] منع إطلاقها على الله - تعالى - ; لأن معنى الماهية المجانسة ، وهي المشاركة في الجنس والفصل ، قالوا : وما روي عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - من أنه كان يقول : إن لله ماهية لا يعلمها إلا هو ، لم يصح عنه ، فإن هذا اللفظ لم يوجد في كتبه ، ولم ينقله عنه أحد من أصحابه العارفين بأقواله ، فلو ثبت عنه ، لحمل على أن مراده أنه - تعالى - يعلم ذاته لا بدليل ، أو أن له أسماء لا يعلمها غيره كما في حديث " وأسألك بكل اسم هو لك ، أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " ، فلله أسماء لا يعلمها إلا هو .

وأما قوله - عليه السلام : " إن لله تسعة وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنة " ، يعني الأسماء الحسنى ، متصفة بأن من أحصاها دخل الجنة ، والله أعلم . ( فقد تعدى ) فهذا خبر للمبتدإ الذي هو كل من أول ، وتعديه تجريه على ما لم يأذن به الله ورسوله ، فإنه فعل ما ليس له ، وقال على الله بما لم يأذن الله ورسوله له به ، ( واستطال ) على السلف الصالح ، فكأنه استدرك عليهم ما يزعم أنهم أغفلوه ، وحرر فيما يدعي أنهم أهملوه ، ( واجترى ) افتعال من الجرأة ، أي تشجع وافتات حده وتعدى طوره ، ولم يقتد بالصادق المصدوق ولا بأصحابه والتابعين لهم بإحسان ، ( وخاض ) ، يقال : خاض الماء يخوضه خوضا وخياضا دخله ، كخوضه واختاضه بالفرس أورده كإخاضة ، وخاض الغمرات اقتحمها ، أي اقتحم ( في بحر الهلاك ) أي الموت والانمحاق ، يعني رمى نفسه في بحر يذهب بدينه ويئول به إلى الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي ، ( وافترى ) على مولاه الذي خلقه وسواه ، ومن أظلم ممن افترى على الله ، فإن من لم يسلم لم يسلم ، ومن لم يقتف طريقة السلف الصالح ، لم يربح ويغنم ، فعلى العاقل أن يتبع طريقة أهل الأثر ، فإنها أسلم ، ودع عنك ما قيل من أن مذهب الخلف أعلم ، فإنها من النزعات الفلسفية ، والزخارف البدعية ، والأحداس النفسية ، والوساوس الجهمية ، والتحذلقات الزندقية . فأين علم زيد وعمرو ممن شاهد الرسول وعاين الأمر ؟ ومن ثم قلنا ( ( ألم تر اختلاف أصحاب النظر ) ) ، يعني نظار المتكلمة من سائر الفرق والطوائف ، ورد بعضهم على بعض ، وتضليل بعضهم بعضا ، ( فيه ) أي في نظرهم الذي يزعم كل فريق [ ص: 104 ] منهم أنه هو العلم الحق والقول الصدق ، فيأتي غير ذلك الفريق ، فينقضه ويرمي صاحبه بالزندقة والتحميق ، فكل فرقة من المتأولين تخطئ الأخرى ، وتزعم أن ما اهتدت إليه بعقلها أحق وأحرى ، فترد ما زعمت تلك أنه برهان ، فتجيء الأخرى فتبرهن على بطلانه ، وتزعم أنه هذيان ، وتعتقد أن الذي زخرفته هو حق اليقين ، فتأتي فرقة أخرى فتزعم أنه من وحي الشياطين ، فكل من طالع كتب أهل الكلام والمتصوفة ، علم ما في قولهم من الهذرمة والزخرفة .


والناس شتى وآراء مفرقة     كل يرى الحق فيما قال واعتقدا



( و ) ألم تر ( حسن ما ) أي المذهب الذي ذهب إليه ، والمنحى الذي ( نحاه ) وقصده ونهجه ( ذو ) أي صاحب مذهب ( الأثر ) من النبي الأمين والصحابة والتابعين والأئمة المعتبرين الذين هم عمدة هذا الدين ، ( فإنهم ) أي الأثرية المفهومين من قوله : وحسن ما نحاه ذو الأثر ، ( قد اقتدوا ) فيما اعتقدوه ، وعولوا فيما اعتمدوه ( بـ ) النبي ( المصطفى ) افتعال من الصفوة ، وهو نبينا رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ( و ) اقتدوا من بعده - صلى الله عليه وسلم - ( بصحبه ) الذين صحبوه ، ونقلوا عنه الشريعة ، وعاينوا الوحي والتنزيل ، وعلموا من الرسول بما جاء به جبريل ، فإن كنت تبغي السلامة ، وتسلم من البدع والندامة ، ( فاقنع ) أي : ارض ( بهذا ) البيان ، المسند إلى آيات القرآن ، وإلى حديث سيد ولد عدنان ، وإلى الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين ، ( وكفى ) بهؤلاء مستندا ومعتقدا ، فالسلامة فيما نحوه وأصلوه ، لا فيما زخرفه أهل التأويل وتقولوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية