الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء

                                                          * * *

                                                          بعد أن ذكر سبحانه وتعالى ما لا يحبه من الجهر بالسوء وأشار إلى الترخيص بالنطق به لدفع الظلم أو للقضاء على منكر من الأفعال أو زور من الأقوال، بين سبحانه وتعالى ما يحبه من الخير الإيجابي والخير السلبي ويكون بالعفو، فمعنى قوله تعالى: إن تبدوا خيرا أن الله سبحانه وتعالى يحب الخير في كل صوره، والخير هو عمل البر، والنفع الإنساني العام، فإن عملتوه فإنكم تعملون ما يحبه الله، فإن تبدوه وتظهروه وتعلنوه، أو تخفوه وتكتموه، فهو مقبول مجزي عليه في كلتا حاليه، فإن أظهرتموه للدعوة إليه، فإلى الخير تدعون، وإن أخفيتموه اتقاء لله ومنعا للرياء. سترا على ما تعطون فنعما تفعلون.

                                                          هذا فعل الخير الإيجابي، وفعل الخير السلبي هو العفو عن الإساءة، والصفح الجميل عن الناس، فإن ذلك مما يحبه تعالى. ولقد روى أحمد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما نقص مال من صدقة، وما زاد عبد بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه [ ص: 1935 ] الله"، وقال تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [الأعراف].

                                                          وقوله تعالى: فإن الله كان عفوا قديرا موقعها من المعنى أنها تعليل لكلام مطوي تدل عليه إذ المؤدى: وما تفعلوا من خير وتبدوه أو تخفوه أو تعفوا عمن يسيء إليكم، فإنكم تقربون إلى الله تعالى، ويحبكم الله لأنه سبحانه عفو دائما وقدير على أخذ المسيء بإساءته، فتخلقوا بصفات الله تعالى، وله سبحانه المثل الأعلى. وهنا ملاحظات ثلاث:

                                                          الأولى: أن الآية الكريمة تفيد أن إبداء الخير محبوب، فهل يدخل في هذا الرياء; ونقول في ذلك إن الفعل النافع إذا قصد به الرياء لا يكون خيرا، بل يكون شركا، فلا يدخل تحت عنوان إبداء الخير، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك"، فهذا فعل خارج عن نطاق الخير، فلا يلتفت إليه، إذ لا يدخل في عمومه.

                                                          الثانية: أن العفو عن الأمر السيئ إنما يكون في حال ما إذا كانت الإساءة تمس شخص من يعفو، وهو بهذا بذل حقا خالصا له، أما إذا كان الأمر السيئ يتعلق بنظام في الإسلام، فلا يصح أن يترك، بل لا بد أن يقاوم، ولا يقال لتاركه إنه عفا، بل يقال عنه إنه قصر وترك الواجب.

                                                          الثالثة: أن الإسلام دعا إلى الصفح الجميل، فقال الله لنبيه: فاصفح الصفح الجميل [الحجر]، وهو الصفح من غير من. ولله تعالى ولرسوله المن والفضل. [ ص: 1936 ] والآية جمعت مكارم الأخلاق، وقد قال في معناها فخر الدين الرازي: "اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، والذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم، ودفع ضرر عنهم، فقوله تعالى: إن تبدوا خيرا أو تخفوه إشارة إلى إيصال النفع إليهم. وقوله تعالى: أو تعفوا عن سوء إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير، وأعمال البر". اهـ.

                                                          اللهم اهدنا لنفع الناس، وجنبنا ضرهم، واعف عنا فيما كان منا، واغفر لنا وارحمنا إنك غفور رحيم.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية