الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 286 ] وعبارة أبي الحسين بن القطان : اختلف أصحابنا فيما قام الدليل على عدم وجوبه من هذه الصيغ هل يسمى أمرا على قولين . انتهى . وفي كتاب المصادر " عن الشريف المرتضى أنها حقيقة في طلب الفعل والإباحة والتهديد والتحذير ، وقد اختلفوا في ذلك على بضعة عشر قولا : الأول : أنها حقيقة في الوجوب فقط مجاز في البواقي ، وهو قول الفقهاء وجماعة المتكلمين ، ونقل عن الشافعي . قاله إمام الحرمين في التلخيص " . أما الشافعي فقد ادعى كل من أهل هذه المذاهب أنه على وفاقه ، وتمسكوا بعبارات متفرقة في كتبه حتى اعتصم القاضي بألفاظ له من كتبه ، واستنبط منها مصيره إلى الوقف ، وهذا عدول عن سنن الإنصاف ، فإن الظاهر والمأثور من مذهبه حمل الأمر على الوجوب . وقال ابن القشيري : إنه مذهب الشافعي ، وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني : وهذا الذي ذكرناه من أن الأمر بمجرده يحمل على الوجوب هو الظاهر من كلام الشافعي ، فإنه قال في الرسالة " : وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على التحريم حتى تأتي دلالة تدل على [ غير ] ذلك ، ثم قال يعني : الشافعي بعد ذلك بكلام كثير : ويحتمل أن يكون الأمر كالنهي وأنهما على الوجوب إلى أن يدل دليل على خلاف ذلك ، فقد قطع القول في النهي أنه على التحريم وسوى بين الأمر في ظاهر كلامه والثاني . وذكر أبو علي الوجوب إلا أنه لم يصرح بذلك في الأمر كتصريحه إياه في النهي . فجملته : أن ظاهر مذهب الشافعي أن الأمر بمجرده على الوجوب إلى أن يدل دليل على خلافه ، وهو قول أكثر أصحابنا منهم أبو العباس وأبو سعيد وابن خيران وغيرهم ، وهو قول مالك وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء . انتهى .

                                                      [ ص: 287 ] قلت : الذي يقتضيه كلام الشافعي أن النهي للتحريم قولا واحدا حتى يرد ما يصرفه ، وأن له في الأمر قولين أرجحهما : أنه مشترك بين الثلاثة أعني الإباحة والوجوب . الثاني : أنه للوجوب ، وهو الأقوى دليلا فإنه قال في : أحكام القرآن " فيما جاء من أمر النكاح قال الشافعي رضي الله عنه على قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم } : والأمر في الكتاب والسنة وكلام الناس يحتمل معاني : أحدها : أن يكون الله عز وجل حرم شيئا ثم أباحه ، كقوله : { وإذا حللتم فاصطادوا } وأن يكون دلهم على ما فيه رشدهم كقوله صلى الله عليه وسلم : { سافروا تصحوا } وأن يكون حتما ، وفي كل حتم من الله الرشد فيجتمع الحتم والرشد . وقال بعض أهل العلم : الأمر كله للإباحة حتى توجد دلالة من الكتاب أو السنة أو الإجماع على أنه أريد به الحتم فيكون فرضا . قال الشافعي : وما نهى الله أو رسوله عنه محرم حتى توجد الدلالة على أن النهي على غير التحريم ، وإنما أريد به الإرشاد أو تنزها أو تأدبا .

                                                      والفرق بين الأمر والنهي من قوله صلى الله عليه وسلم { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فانتهوا } ، ويحتمل أن يكون الأمر في معنى النهي فيكونان لازمين إلا بدلالة أنهما غير لازمين . انتهى . وقال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع " ، وابن برهان في الوجيز " : هو حقيقة في الوجوب عند الفقهاء واختاره الإمام [ ص: 288 ] وأتباعه . قال الشيخ أبو إسحاق : وهو الذي أملاه الشيخ أبو الحسن على أصحاب الشيخ أبي إسحاق المروزي ببغداد ، وقال الأستاذ أبو إسحاق : إنه لا يجوز غيره ، في تركه دفع الشريعة ، وقال القاضي عبد الوهاب : إنه قول مالك وكافة أصحابه وقال في الملخص " : هو قول أصحابنا وأكثر الحنفية والشافعية والأقلين من الأصوليين ، وقال أبو بكر الرازي ، هو مذهب أصحابنا ، وإليه كان يذهب شيخنا أبو الحسن الكرخي ، وقال أبو زيد الدبوسي : هو قول جمهور العلماء ثم ظاهر إطلاقهم أنا نقطع بأنه للوجوب .

                                                      وقال المازري : بل ظاهر فيه مع احتمال غيره لكن الوجوب أظهر ، وهل ذلك بوضع اللغة أو الشرع ؟ فقيل : اللغة : وصححه أبو إسحاق ونقله إمام الحرمين في مختصر التقريب " عن الأكثرين من القائلين باقتضاء الصيغة للوجوب ، وأنه كذلك بأصل الوضع ; لأنه قد ثبت في إطلاق أهل اللغة تسمية من قد خالف مطلق الأمر عاصيا وتوبيخه بالعصيان عند مجرد ذكر الأمر ، واقتضى ذلك دلالة الأمر المطلق على الوجوب . وقال المازري : صرح بعض أصحابنا بأن الوعيد مستفاد من اللفظ كما يستفاد منه الاقتضاء الجازم . وقيل بوضع الشرع ، وحكاه صاحب المصادر " عن الشريف المرتضى واختاره . وقيل بضم الشرع إلى الفقه ، وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني فيما حكاه المازري في شرح البرهان " واختاره إمام الحرمين أيضا ، ونزل [ ص: 289 ] عليه كلام عبد الجبار ، وهو المختار فإن الوعيد لا يستفاد من اللفظ بل هو أمر خارجي عنه .

                                                      وعن المستوعب " للقيرواني حكاية قول رابع أنه يدل بالعقل . قال الشيخ أبو إسحاق : وفائدة الوجهين في الاقتضاء باللغة أو بالشرع أنا إن قلنا : يقتضيه من حيث اللغة وجب حمل الأمر على الوجوب سواء كان من الشارع أو غيره إلا ما خرج بدليل . وإن قلنا : من حيث الشرع كان الوجوب مقصورا على أوامر صاحب الشرع . حكاه بعض شراح اللمع " . وأغرب صاحب المصادر " فحكى عن الأكثرين أنه يقتضي الوجوب بمجرده ، ثم حكى قولا آخر أنه يقتضي الإيجاب . قال : والفرق بينهما أن من قال يقتضي الوجوب أراد به أنه يدل على وجوبه لا أنه يؤثر في وجوبه ، ومن قال : يقتضي الإيجاب أراد به أنه بالأمر يصير الفعل واجبا ، ويؤثر في وجوبه . والثاني : أنها حقيقة في الندب وهو قول كثير من المتكلمين منهم أبو هاشم . وقال الشيخ أبو حامد : إنه قول المعتزلة بأسرها ، وقال أبو يوسف في الواضح " : هو أظهر قولي أبي علي ، وإليه ذهب عبد الجبار ، وربما نسب للشافعي . قال القاضي عبد الوهاب : كلامه في أحكام القرآن " يدل عليه . قال الشيخ أبو إسحاق : وحكاه الفقهاء عن المعتزلة ، وليس هو مذهبهم [ ص: 290 ] على الإطلاق بل ذلك بواسطة أن الأمر عندهم يقتضي الإرادة ، والحكيم لا يريد إلا الحسن ، والحسن ينقسم إلى واجب وندب ، فيحمل على المحقق وهو الندب ، فليست الصيغة عندهم مقتضية للندب إلا على هذا التقدير .

                                                      وقال إمام الحرمين : هذا أقرب إلى حقيقة مذهب القوم ، وقال الأستاذ أبو منصور : هو قول المعتزلة ; لأن عندهم أن الأمر يقتضي حسن المأمور به ، وقد يكون الحسن واجبا ، وقد يكون ندبا ، وكونه ندبا يقين ، وفي وجوبه شك فلا يجب إلا بدليل ، وذكر ابن السمعاني نحوه . والثالث : أنها حقيقة في الإباحة التي هي أدنى المراتب ، وحكاه البيهقي في سننه " عن حكاية الشافعي في كتاب النكاح ، فقال : وقال بعضهم : الأمر كله على الإباحة ، والدلالة على المرشد حتى توجد الدلالة على أنه أريد بالأمر الحتم ، وما نهى الله عنه فهو محرم حتى توجد الدلالة بأنه على غير التحريم . واحتج له بحديث أبي هريرة ( إذا أمرتكم بأمر ) ثم قال : قال الشافعي : وقد يحتمل أن يكون الأمر في معنى النهي فيكونان لازمين إلا بدلالة أنهما غير لازمين ، ويكون قوله : { فأتوا منه ما استطعتم } أن عليهم الإتيان بما استطاعوا ; لأن الناس إنما يلزمون بما استطاعوا . وعلى أهل العلم طلب الدلائل حتى يفرقوا بين الأمر والنهي معا . انتهى .

                                                      وقال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب " : حكي عن بعض أصحابنا أن الأمر للندب وأنه للإباحة ، وهذا لا يعرف عنهم بل المعروف من عصر الصحابة إلى وقتنا هذا أن الأمر على الوجوب ، وإنما هذا قول قوم ليسوا من الفقهاء أدخلوا أنفسهم فيما بين الفقهاء ، كما نسب قوم إلى الشافعي القول بالتوقف في العموم ، وليس هو مذهبه . انتهى . الرابع : أنها مشتركة بالاشتراك اللفظي بين الوجوب والندب .

                                                      [ ص: 291 ] وحكي عن المرتضى من الشيعة ، وليس كذلك فقد سبق عن صاحب المصادر " حقيقة مذهبه . وقال الغزالي : صرح الشافعي في كتاب أحكام القرآن " بتردد الأمر [ بين ] الوجوب والندب وقد سبق تأويله من كلام ابن القطان . الخامس : أنها حقيقة في القدر المشترك بينهما ، وهو الطلب لكن يحكم بالوجوب ظاهرا في حق العمل احتياطا دون الاعتقاد ، وبه قال أبو منصور الماتريدي . السادس : حقيقة إما في الوجوب ، وإما في الندب ، وإما فيهما جميعا بالاشتراك اللفظي لكنا ما ندري ما هو الواقع من هذه الأقسام الثلاثة ، ونعرف أن لا رابع . وحكي عن بعض الواقفية كالشيخ والقاضي ، وحكاه بعضهم عن ابن سريج وقال : إنه صار إلى التوقف حتى يتبين المراد والتوقف عنده في تعيين المراد عند الاستعمال لا في تعيين الموضوع له ; لأنه عنده موضوع بالاشتراك العقلي للوجوب والندب والإباحة والتهديد .

                                                      وذهب الغزالي وجماعة من المحققين إلى التوقف في تعيين الموضوع له أنه للوجوب فقط ، أو الندب فقط أو مشترك بينهما اشتراكا لفظيا . السابع : مشتركة بين الثلاثة أعني الوجوب والندب والإباحة ، وهل هو بالاشتراك اللفظي أو المعنوي ؟ رأيان . الثامن : أنها مشتركة بين الخمسة ، هذه الثلاثة والكراهة والتحريم . حكاه في المحصول " .

                                                      [ ص: 292 ] التاسع : مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة والإرشاد والتهديد . حكاه الغزالي ونسبه للأشعري والقاضي ، وأصحابهما . قال : وعندهم أنها مشتركة بحكم الوضع الأصلي فيكون حقيقة في كل واحد منهما بظاهره ، وإنما يحمل عليه بدليل . وغاير ابن برهان بين مذهب الشيخ والقاضي . ذهب الشيخ وأصحابه إلى أن الأمر ليست له صيغة تخصه ، وإنما قول القائل : " افعل " مشترك بين الأمر والنهي والتهديد والتعجيز ، والتكوين لا يحمل على شيء منها إلا بدليل ثم ذكر مذهب القاضي كما سيأتي . العاشر : أنه حقيقة في الطلب مجاز فيما سواه . قال الآمدي : وهو الأصح . الحادي عشر : أن أمر الله للوجوب وأمر النبي صلى الله عليه وسلم للندب إلا ما كان موافقا لنص أو مبينا لمجمل . حكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص " عن شيخه أبي بكر الأبهري ، وكذا حكاه عنه المازري في شرح البرهان " وقال : إن النقل اختلف عنه ، فروي عنه كذا ، وروي عنه موافقة من قال : إنه للندب على الإطلاق . وقال القاضي عبد الوهاب في كلامه على الأدلة : وأما ما حكيناه عن الأبهري فإنه ذكره في شرحه " وهو كالمتروك وكان يستدل على ذلك بأن المسلمين فرقوا بين السنن والفرائض ، فأضافوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على ما قلناه ، وبهذا فارق بيان المجمل من الكتاب ; لأنه ليس بابتداء منه .

                                                      [ ص: 293 ] قال : والصحيح هذا الذي كان يقوله آخر أمره ، وأنه لا فرق بين أوامر الله - تعالى - وأوامر رسوله من كون جميعها على الوجوب . الثاني عشر : وحكاه ابن برهان عن القاضي وأصحابه : أنه ليست له صيغة تخصه ، وليست مشتركة بين الأمر وغيره ، ولا يدل عند قول القائل : " افعل " على معنى أو مشترك ، وإنما يدل عند انضمام القرينة إليها ، ونزول الصيغة من القرينة منزلة الزاي من زيد لا يدل على تركب من الزاي والياء والدال حينئذ يدل على معنى ، وكذلك قولك : " افعل " بدون القرينة لا يدل على شيء فإذا انضمت القرينة إليه حينئذ دل على المقصود . وقال الشيح أبو حامد الإسفراييني : ذهب الأشعري ومن تابعه إلى أن لفظ الأمر لا يدل على وجوب ، ولا غيره ، بمجرده ولا يحمل على شيء إلا بدليل . تنبيهات الأول : قال أبو الحسين البصري : المسألة ظنية ; لأنها وسيلة إلى العمل فتنتهض فيها الأدلة الظنية ، وقال غيره : قطعية ; إذ هي من قواعد أصول الفقه . وبنى الصفي الهندي على هذا ، فقال : المطلوب في هذه المسألة إن كان هو القطع فالحق فيها هو التوقف ، وإن كان أعم منه ، وهو الحكم إما على سبيل القطع أو الظن وهو الأشبه ، فالأغلب على الظن أن الحق فيما هو القول بالوجوب .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية