الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .

هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلقان بالصلاة ، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ ، وإلى قرنه بحكم مقرر يتعلق بالصلاة أيضا ، ويظهر أن سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها ، فوقعت في موقع وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات . تضمنت حكما أول يتعلق بالصلاة ابتداء ، وهو مقصود في ذاته أيضا بحسب الغاية ، وهو قوله : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . وذلك أن الخمر كانت حلالا لم يحرمها الله تعالى ، فبقيت على الإباحة الأصلية ، وفي المسلمين من يشربها . ونزل قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس في أول مدة الهجرة . فقال فريق من المسلمين : نحن نشربها لمنافعها لا لإثمها ، وقد علموا أن المراد من الإثم الحرج والمضرة والمفسدة ، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأن الخمر يوشك أن تكون حراما لأن ما يشتمل على الإثم متصف بوصف مناسب للتحريم ، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم ، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها ، فحدث بعد ثلاث سنين ما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا خمرا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .

[ ص: 61 ] والقرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبس بالفعل ، لأن ( قرب ) حقيقة في الدنو من المكان أو الذات . يقال : قرب منه بضم الراء وقربه بكسر الراء وهما بمعنى ، ومن الناس من زعم أن مكسور الراء للقرب المجازي خاصة ، ولا يصح .

وإنما اختير هذا الفعل دون ( لا تصلوا ) ونحوه ؛ للإشارة إلى أن تلك حالة منافية للصلاة ، وصاحبها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام ، ومن هنا كانت مؤذنة بتغير شأن الخمر والتنفير منها ، لأن المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيمانا وأعلقهم بالصلاة ، فلا يرمقون شيئا يمنعهم من الصلاة إلا بعين الاحتقار . ومن المفسرين من تأول الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحال على المحل كما في قوله تعالى : وصلوات ومساجد ، ونقل عن ابن عباس ، وابن مسعود ، والحسن قالوا : كان جماعة من الصحابة يشربون الخمر ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله فنهاهم الله عن ذلك . ولا يخفى بعده ومخالفته لمشهور الآثار .

وقوله : حتى تعلموا ما تقولون غاية للنهي وإيماء إلى علته ، واكتفى بقوله " تقولون " عن تفعلون ; لظهور أن ذلك الحد من السكر قد يفضي إلى اختلال أعمال الصلاة ، إذ العمل يسرع إليه الاختلال باختلال العقل قبل اختلال القول . وفي الآية إيذان بأن السكر الخفيف لا يمنع الصلاة يومئذ ; أو أريد من الغاية أنها حالة انتهاء السكر فتبقى بعدها النشوة . وسكارى جمع سكران ، والسكران من أخذ عقله في الانغلاق ، مشتق من السكر ، وهو الغلق ، ومنه سكر الحوض وسكر الباب و سكرت أبصارنا .

ولما نزلت هذه الآية اجتنب المسلمون شرب الخمر في أوقات الصلوات فكانوا لا يشربون إلا بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح ، لبعد ما بين هاتين الصلاتين وبين ما تليانهما ، ثم أكمل مع تحريم قربان الصلاة في حالة السكر تحريم قربانها بدون طهارة .

التالي السابق


الخدمات العلمية