الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 78 ] 554 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لأبي الدرداء : طف الصاع

3456 - حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري ، قال : حدثنا مؤمل بن إهاب ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن صالح بن كيسان ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبيه ، عن سالم بن أبي سالم الجيشاني ، عن أبي الدرداء ، قال : مات أخ لي ، وترك امرأته ، فخطب إلي أخ له لأمه ، فأتيتها ، فقلت : لا تزوجي فلانا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فمر بي ، فقال : يا أبا الدرداء ، يا ابن ماء السماء ، طف الصاع .

[ ص: 79 ]

3457 - وحدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي ، قال : حدثنا محمد بن منصور ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا أبي ، عن صالح ، وحدث عمرو بن الحارث ، عن أبيه ، عن أبي سالم الجيشاني قال : توفي أخ لأبي الدرداء من أبيه ، وترك أخا من أمه فنكح امرأته ، فغضب أبو الدرداء حين سمع ذلك ، فأقبل إليها فوقف عليها ، فقال : أنكحت ابن الأمة ؟! فردد ذلك عليها فقالت - أصلحك الله - إنه كان أخ زوجي ، وكان أحق بي يضمني وولده ، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل إليه حتى وقفه ، ثم ضرب على منكبه ، فقال : يا أبا الدرداء ، يا ابن ماء السماء ، طف الصاع ، طف الصاع ، طف الصاع .

قال أبو جعفر : فكان تصحيح هذين الإسنادين لهذا الحديث أن يدخل في إسناده برواية صالح بن عبد الرحمن إياه بالإسناد الذي رواه به سالم بن أبي سالم ، وأن يدخل فيه برواية إسحاق بن إبراهيم إياه بالإسناد الذي رواه به أبو سالم ، فيعود إسناده إلى سالم بن أبي سالم ، [ ص: 80 ] عن أبي سالم ، عن أبي الدرداء .

ثم تأملنا ما فيه من ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء من أجله ما قاله له فيه ، فوجدنا أبا الدرداء قد كان منه قبل ذلك من الغضب على زوجة أخيه المتوفى ما كان منه إليها لما نكحت أخاه لأمه الذي كانت أمه أمة ، ما كان أهل الجاهلية يعدونه نقصا فيمن كان كذلك ، ويعدون من كان بخلافه فوقه ، ومن وعيده لها عند ذلك بما أوعدها عليه مما قد منع الإسلام منه ; إذ كان الإسلام قد أمر بترك الافتخار بالأنساب التي كان أهل الجاهلية يفتخرون بها ويعلو بعضهم بعضا من أجلها ، وأعلمهم بتساوي الناس في ذلك ، وأنه لا يفضل بعضهم بعضا إلا بالعمل الصالح . وروي عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك .

3458 - ما حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : حدثنا هشام بن سعد ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها ، مؤمن تقي أو فاجر شقي ، أنتم بنو آدم وآدم من تراب ، ليدعن رجال فخرهم بأقوام ، إنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله عز وجل من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن .

[ ص: 81 ] فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفخر الذي لبني آدم مما يكون بعضهم أعلى به على بعض إلى التقى الذي يكون في مؤمنهم ، فيكون بذلك أعلى من فاجرهم الذي يكون معه بفجوره الشقاء ، وكان قوله لأبي الدرداء عند ذلك : طف الصاع ، من هذا المعنى ; لأن طف الصاع : المراد به التقصير عن ملء الصاع والتساوي فيه وجمعه للناس جميعا ، وتباينهم في ذلك بما باين الله عز وجل بهم فيه من الأعمال الصالحة التي رفع بها الدرجات لأهلها ، وجعلهم بذلك بخلاف أضدادهم ممن معه الأعمال السيئة ، والاختيارات القبيحة .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك من ما حدث به عنه عقبة بن عامر الجهني حديث زائد على الحديث الذي رويناه في هذا المعنى في هذا الباب .

3459 - كما قد حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، [ ص: 82 ] عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أنسابكم هذه ليست بمساب على أحد ، إنما أنتم بنو آدم ، طف الصاع لم تملؤوه ، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو عمل صالح ، بحسب الرجل أن يكون فاحشا بذيئا بخيلا جبانا .

قال أبو جعفر : فكان الطف المذكور في حديث أبي الدرداء هو النقصان ، ومنه قول الله عز وجل : ويل للمطففين ، أي : المنقصين في الكيل ، فمن ذلك انتقاص أبي الدرداء أخا أخيه لأمه بما انتقصه به من أنه ابن أمة حتى خاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجله بما خاطبه به في الحديث الذي ذكرنا .

وقد حدثنا ولاد النحوي ، عن المصادري ، عن أبي عبيدة ، قال : المطفف الذي لا يوفي على الناس من الناس . فذلك دليل على ما ذكرنا .

[ ص: 83 ] وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه في « غريب الحديث » الذي أجازه لنا عنه علي بن عبد العزيز : الطف : أن يقرب الإناء من الامتلاء من غير أن يمتلئ .

يقال : هذا طف المكيال ، وطفافه ، إذا كرب أن يملأه ، ومنه التطفيف في الكيل إنما هو نقصانه .

قال أبو جعفر : ثم نهاية الشرف بعد ذلك الذي يتفاضل فيه أهل الأعمال المحمودة والاختيارات العالية تفاضلهم في ذلك بأماكنهم مع هذه الأعمال بخير خلق الله عز وجل وصفوته من عباده ، واختياره لرسالته والتبليغ عنه ، فيكون معه باكتسابه لنفسه الأمور المحمودة أفضل من غيره ممن معه مثل ذلك للموضع الذي وصفه الله عز وجل به وأثابه به عمن سواه من ذوي تلك الأعمال .

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا .

وقد ذكرنا ذلك بأسانيده فيما تقدم منا في كتابنا هذا ، وفي ذلك ما قد عقل به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علو مرتبة الفقه وجلالة مقادير أهله وعلوهم من سواهم من المتخلفين عنه ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية