الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 565 ]

                                83 - باب

                                رفع الصوت في المسجد

                                خرج فيه حديثين:

                                الحديث الأول: موقوف:

                                458 470 - ثنا علي ابن المديني: ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا الجعيد بن عبد الرحمن: ثنا يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، قال: كنت قائما في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين. قال: فجئته بهما، فقال: من أنتما - ومن أين أنتما؟ - قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم !

                                التالي السابق


                                إنما فرق عمر بين أهل المدينة وغيرها في هذا ; لأن أهل المدينة لا يخفى عليهم حرمة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، بخلاف من لم يكن من أهلها ; فإنه قد يخفى عليه مثل هذا القدر من احترام المسجد، فعفى عنه بجهله.

                                ولعل البخاري يرى هذا القبيل من المسند - أعني: إذا أخبر الصحابي عن شهرة أمر وتقريره، وأنه مما لا يخفى على أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك يكون كرفعه.

                                ويشبه هذا: ما قال الفقهاء أن من ارتكب حدا كالزنا ونحوه ممن نشأ في بادية بعيدة عن الإسلام، وادعى الجهل بتحريمه، فإنه لا يقام عليه ويعذر بذلك، بخلاف من نشأ ببلاد الإسلام.

                                وفيه: أن التنبيه في المسجد بالحصب بالحصى جائز، وقد كان ابن عمر إذا [ ص: 566 ] رأى من يصلي ولا يرفع يديه حصبه بالحصى. وكذلك إذا رأى من يتكلم والإمام يخطب.

                                وفي هذه الرواية: "كنت قائما في المسجد" كذا هو في كثير من نسخ "صحيح البخاري " وقد خرجه البيهقي في "سننه" وقرأته بخطه من رواية أبي خليفة ، عن علي ابن المديني ، وفيه: "كنت نائما" بالنون.

                                وقد خرجه الإسماعيلي في " مسند عمر " من طرق، وعنده: أنه قال: "كنت مضطجعا" وهذه صريحة في النوم، ولم ينكر عليه عمر نومه في المسجد.

                                وخرجه الإسماعيلي - أيضا - من رواية حاتم - هو: ابن إسماعيل - عن الجعيد ، عن السائب - لم يذكر بينهما: " يزيد بن خصيفة ".

                                وأشار إلى ترجيح هذه الرواية على رواية القطان وفي قوله نظر.

                                والجعيد - ويقال: الجعد - بن عبد الرحمن بن أوس ، وينسب تارة إلى جده، وقد وقع في بعض روايات هذا الحديث تسميته: " الجعد " وفي بعضها تسميته: " الجعد بن أوس " وهو رجل واحد، فلا يتوهمن غير ذلك.

                                وقد روي هذا عن عمر من وجه آخر:

                                خرجه الإسماعيلي في " مسند عمر " من طريق عبدة ، عن عبيد الله بن عمر ، [ ص: 567 ] عن نافع أن رجلا من ثقيف أخبره، أن عمر بن الخطاب سمع ضحك رجل في المسجد، فأرسل إليه، فدعاه، فقال: ممن أنت؟ فقال: أنا رجل من أهل الطائف فقال: أما إنك لو كنت من أهل البلد لنكلت بك، إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت.

                                وقد روي في حديث واثلة المرفوع: " جنبوا مساجدكم خصوماتكم ورفع أصواتكم ".

                                خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف جدا.

                                وروي عن ابن مسعود ، أنه كان يكره أن ترفع الأصوات في المسجد. وقد سبق.

                                ورفع الأصوات في المسجد على وجهين:

                                أحدهما: أن يكون بذكر الله وقراءة القرآن والمواعظ وتعليم العلم وتعلمه، فما كان من ذلك لحاجة عموم أهل المسجد إليه، مثل الأذان والإقامة وقراءة الإمام في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة - فهذا كله حسن مأمور به.

                                وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب علا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش، يقول: "صبحكم ومساكم" وكان إذا قرأ في الصلاة بالناس تسمع قراءته خارج المسجد، وكان بلال يؤذن بين يديه ويقيم في يوم الجمعة في المسجد.

                                وقد كره بعض علماء المالكية في مسجد المدينة خاصة لمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيد في رفع صوته في الخطب والمواعظ على حاجة إسماع الحاضرين؛ تأدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه صلى الله عليه وسلم حاضر يسمع ذلك، فيلزم التأدب معه، كما لو كان حيا.

                                [ ص: 568 ] وما لا حاجة إلى الجهر فيه، فإن كان فيه أذى لغيره ممن يشتغل بالطاعات كمن يصلي لنفسه ويجهر بقراءته، حتى يغلط من يقرأ إلى جانبه أن يصلي، فإنه منهي عنه.

                                وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة على أصحابه وهم يصلون في المسجد ويجهرون بالقراءة، فقال: "كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن".

                                وفي رواية: "فلا يؤذ بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة".

                                خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد .

                                وكذلك رفع الصوت بالعلم زائدا على الحاجة مكروه عند أكثر العلماء، وقد سبق ذكره مستوفى في أوائل "كتاب العلم " في " باب رفع الصوت بالعلم".

                                الوجه الثاني: رفع الصوت بالاختصام ونحوه من أمور الدنيا، فهذا هو الذي نهى عنه عمر وغيره من الصحابة.

                                ويشبهه: إنشاد الضالة في المسجد، وفي صحيح مسلم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهته والزجر عنه، من رواية أبي هريرة وبريدة .

                                وأشد منه كراهة: رفع الصوت بالخصام بالباطل في أمور الدين; فإن الله ذم الجدال في الله بغير علم، والجدال بالباطل، فإذا وقع ذلك في المسجد ورفعت الأصوات به تضاعف قبحه وتحريمه.

                                وقد كره مالك رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره.

                                ورخص أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك في رفع الصوت في [ ص: 569 ] المسجد بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس; لأنه مجمعهم ولا بد لهم منه.

                                وهذا مبني على جواز القضاء في المساجد. وقد سبق ذكره.



                                الخدمات العلمية