الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب كل الرجل يستصنع الشيء . ( قال : ) رحمه الله اعلم بأن البيوع أنواع أربعة ، بيع عين بثمن ، وبيع دين في الذمة بثمن وهو السلم ، وبيع عمل العين فيه تبع وهو الاستئجار للصناعة ونحوهما فالمعقود عليه الوصف الذي يحدث في المحل بعمل العامل والعين هو الصبغ بيع فيه ، وبيع عين شرط فيه العمل وهو الاستصناع [ ص: 85 ] فالمستصنع فيه مبيع عين ولهذا يثبت فيه خيار الرؤية والعمل مشروط فيه وهذا ; لأن هذا النوع من العمل اختص باسم فلا بد من اختصاصه بمعنى يقتضيه ذلك الاسم ، والاستصناع استفعال من الصنع فعرفنا أن العمل مشروط فيه ، ثم أحكام ما للناس فيه تعامل من الاستصناع قد بيناه في شرح البيوع فبذلك بدأ الباب هنا وبين الفرق بينه وبين ما إذا أسلم حديدا إلى حداد ليصنعه إناء مسمى بأجر مسمى ; فإنه جائز ولا خيار له فيه إذا كان مثل ما سمى ; لأن ثبوت الخيار للفسخ حتى يعود إليه رأس ماله فيندفع الضرر به ذلك لا يتأتى هنا فإن بعد اتصال عمله بالحديد لا وجه لفسخ العقد فيه ، فأما في الاستصناع المعقود عليه العين وفسخ العقد فيه ممكن ; فلهذا ثبت خيار الرؤية فيه ; ولأن الحداد هنا يلتزم العمل بالعقد في ذمته ولا يثبت خيار الرؤية فيما يكون محله الذمة كالمسلم فيه ، فأما في الاستصناع المقصود هو العين والعقد يرد عليه حتى لو صار دينا بذكر الأجل عند أبي حنيفة رحمه الله لم يثبت فيه خيار الرؤية بعد ذلك ، وإن أفسده الحداد فله أن يضمنه حديدا مثل حديده ويصير الإناء للعامل ، وإن شاء رضي به وأعطاه الأجر ; لأن العامل مخالف له من وجه حيث أفسد عمله ، وموافق من وجه وهو إقامة أصل العمل

وإن شاء مال إلى جهة الخلاف وجعله كالغاصب ومن غصب حديدا وضربه إناء فهو ضامن حديدا مثله والإناء له بالضمان ، وإن شاء مال إلى جهة الوفاق ورضي به متغير الصفة فأخذ الإناء وأعطاه الأجر كالمشتري ، وإذا وجد بالبيع عيبا إلا أنه يعطيه أجر مثله لا يجاوز به المسمى ; لأنه إنما التزم جميع المسمى بمقابلة عمل صالح ولم يأت به ولكن قدر ما أقام من العمل سلم له بحكم العقد فعليه أجر المثل ولا يجاوز به المسمى ; لأن المنفعة إنما تتقوم بالعقد والتسمية ولم يوجد ذلك فيما زاد على المسمى ولأنه ; لما رضي بالمسمى بمقابلة عمل صالح يكون أرضى به بمقابلة عمل فاسد وهذا بخلاف المشتري ; فإنه لو رضي بالعيب يلزمه جميع الثمن ; لأن الثمن بمقابلة العين دون الأوصاف ، والفائت بالعيب وصف وهنا البدل بمقابلة العمل المشروط وبالإفساد ينعدم ذلك العمل ; فلهذا لا يلزمه جميع المسمى ، وإن رضي به ، وكذلك كل ما يسلمه إلى عامل ليصنع له شيئا مسمى ، كالجلد يسلمه إلى الإسكاف ليصنعه خفين والغزل يسلمه إلى حائك لينسجه ، فلو استصنع عند حائك ثوبا موصوف الطول والعرض والرفعة والجنس ينسجه من غزل الحائك كان هذا في القياس مثل الخف وغيره ويريد به قياس الاستحسان في مسألة الخف ولكن هذا لا يعمل به الناس

وإنما جوزنا الاستصناع فيما فيه [ ص: 86 ] تعامل ففيما لا تعامل نأخذ بأصل القياس ونقول : إنه لا يجوز ولو ضرب لهذا الثوب أجلا وتعجل الثمن كان جائزا وكان سلما لا خيار له فيه ، وإن فارقه قبل أن يعجل الثمن فهو فاسد قيل : هذا قول أبي حنيفة رحمه الله ، فأما عندهما لما كان الاستصناع الجائز بذكر الأجل فيه لا يصير سلما فالاستصناع الفاسد بذكر الأجل كيف يكون سلما صحيحا فإن الأجل لتأخير المطالبة ولا مطالبة عند فساد العقد فذكر الأجل فيه يكون لغوا والأصح أنه قولهم جميعا والعذر لهما أن تحصيل مقصود المتعاقدين بحسب الإمكان واجب ففيما للناس فيه تعامل أمكن تحصيل مقصودهما على الوجه الذي صرح به وفيما لا تعامل فيه ذلك غير ممكن فيصار إلى تحصيل مقصودهما بالطريق الممكن وهو أن يجعل ذلك سلما توضيحه أن فيما فيه التعامل المستصنع فيه مبيع شرط فيه العمل فذكر المدة لإقامة العمل فيها فلا يخرج به من أن يكون مبيعا عينا ، فأما فيما لا تعامل فيه فليس هنا مبيع عين ليكون ذكر المدة لإقامة العمل في العين بل ذكر العمل لبيان الوصف فيما يلتزمه دينا وذكر المدة لتأخير المطالبة وهذا هو معنى السلم فيجعله سلما لذلك

التالي السابق


الخدمات العلمية