الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين

قرأ جمهور الناس: "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم" بتثقيل "إن" ورفع "عباد"، وهي مخاطبة للكفار في تحقير شأن أصنامهم عندهم، أي: إن هذه الأصنام مخلوقة محدثة إذ هي أجسام وأجرام فهي متعبدة أي متملكة، وقال مقاتل : إن المراد بهذه الآية طائفة من العرب من خزاعة كانت تعبد الملائكة فأعلمهم الله أنهم عباد أمثالهم لا آلهة. وقرأ سعيد بن جبير : "إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم" بتخفيف النون [ ص: 113 ] من "إن" على أن تكون بمعنى "ما" وبنصب قوله: "عبادا" و"أمثالكم" ، والمعنى بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر، بل هم أقل وأحقر إذ هم جمادات لا تفهم ولا تعقل، وسيبويه يرى أن "إن" إذا كانت بمعنى "ما" فإنها تضعف عن رتبة "ما" فيبقى الخبر مرفوعا وتكون هي داخلة على الابتداء والخبر لا ينصبه، فكان الوجه عنده في هذه القراءة: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم. وأبو العباس المبرد يجيز أن تعمل عمل "ما" في نصب الخبر، وزعم الكسائي أن "إن" بمعنى "ما" لا تجيء إلا وبعدها "إلا" كقوله تعالى: إن الكافرون إلا في غرور . ثم بين تعالى الحجة بقوله: فادعوهم أي: فاختبروا فإن لم يستجيبوا فهم كما وصفنا.

وقوله تعالى: ألهم أرجل الآية، الغرض من هذه الآية: ألهم حواس الحي وأوصافه؟ فإذا قالوا: "لا"، حكموا بأنها جمادات، فجاءت هذه التفصيلات لذلك المجمل الذي أريد التقرير عليه، فإذا وقع الإقرار بتفصيلات القضية لزم الإقرار بعمومها وكان بيانها أقوى ولم تبق بها استرابة. قال الزهراوي : المعنى: أنتم أفضل منهم بهذه الجوارح النافعة فكيف تعبدونهم؟

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وتتقوى بهذا التأويل قراءة سعيد بن جبير ، إذ تقتضي أن الأوثان ليست عبادا كالبشر.

وقوله في الآية "أم" إضراب لكل واحدة عن الجملة المتقدمة لها، وليست "أم" المعادلة للألف في قولك: "أعندك زيد أم عمرو ؟" لأن المعادلة إنما هي في السؤال عن شيئين أحدهما حاصل، فإذا وقع التقدير على شيئين كلاهما منفي فـ "أم" إضراب عن الجملة الأولى.

[ ص: 114 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا عندي فرق معنوي، وأما من جهة اللفظ والصناعة النحوية فهي هي.

وقرأ نافع ، والحسن ، والأعرج : "يبطشون" بكسر الطاء، وقرأ نافع أيضا، وأبو جعفر ، وشيبة : "يبطشون" بضمها.

ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعجزهم بقوله: قل ادعوا شركاءكم أي استنجدوهم واستنفدوهم إلى إضراري وكيدي ولا تؤخروني، والمعنى: فإن كانوا آلهة فسيظهر فعلهم، وسماهم شركاءهم من حيث لهم نسبة إليهم بتسميتهم إياهم آلهة وشركاء لله، وقرأ أبو عمرو ، ونافع : "فكيدوني" بإثبات الياء في الوصل، وقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : "كيدون" بحذف الياء في الوصل والوقف، قال أبو علي : إذا أشبه الكلام المنفصل أو كان منفصلا أشبه القافية، وهم يحذفون الياء في القافية كثيرا، وقد التزموا ذلك، كما قال الأعشى:


فهل يمنعني ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين



وقد حذفوا الياء التي هي لام الأمر كما قال الأعشى:


يلمس الأحلاس في منزله ...     بيديه كاليهودي المصل



وقوله تعالى: فلا تنظرون أي لا تؤخرون، ومنه قوله تعالى: فنظرة إلى ميسرة .

[ ص: 115 ] وقوله تعالى: إن وليي الله الآية، لما أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضره وأراهم أن الله هو القادر على كل شيء لا تلك، عقب ذلك بالاستناد إلى الله والتوكل عليه بأنه وليه وناصره، وقرأ جمهور الناس والقرأة: "إن وليي الله" بياء مكسورة مشددة وأخرى مفتوحة، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه: "إن ولي الله" بياء واحدة مشددة ورفع "الله"، قال أبو علي : لا تخلو هذه القراءة من أن تدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة، أو تحذف الياء التي هي لام الفعل وتدغم ياء فعيل في ياء الإضافة، ولا يجوز أن تدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة لأنه إذا فعل ذلك انفك الإدغام الأول، فليس إلا أنه حذف لام الفعل وأدغم ياء فعيل في ياء الإضافة.

وقرأ ابن مسعود "الذي نزل الكتاب بالحق وهو يتولى الصالحين" ، وقرأ الجحدري -فيما ذكر أبو عمرو الداني -: "إن ولي الله" على الإضافة، وفسر ذلك بأن المراد جبريل صلى الله عليه وسلم، ذكر القراءة غير منسوبة أبو حاتم وضعفها، وإن كانت ألفاظ هذه الآية تلائم هذا المعنى وتصلح له، فإن ما قبلها وما بعدها يدفع ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية