الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 103 ] باب متى يجب للعامل الأجر . ( قال : رحمه الله وإذا هلك الثوب عند القصار بعد الفراغ من العمل فلا أجر له ولا ضمان عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو قول زفر والحسن بن زياد رحمهم الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : هو ضامن إلا إذا تلف بأمر لا يمكن الاحتراز عنه كالحرق الغالب ) وكذلك الخلاف في كل أجير مشترك كالأجير المشترك في حفظ الثياب وغيره والمشترك من يستوجب الأجر بالعمل ويعمل لغير واحد ولهذا يسمى مشتركا ولا خلاف أن أجير الواحد لا يكون ضامنا ; لما تلف في يده من غير صنعه وهو الذي يستوجب البدل بمقابلة منافعه حتى إذا سلم النفس استوجب الأجر ، وإن لم يستعمله صاحبه ولا يملك أن يؤجر نفسه من آخر في تلك المدة وجه قولهما أنه خالف بموجب العقد فكان ضامنا كما إذا دق الثوب وتخرق ، وبيان ذلك أن المعقود عليه هو الحفظ وعقد المعاوضة يقتضي سلامة المعقود عليه عن العيب فيكون المستحق بالعقد حفظا سليما فإذا سرق تبين أنه لم يأت بالحفظ السليم فكان مخالفا موجب العقد كما قلنا في الدق فالمستحق بالعقد وفي سليما عن عيب التخرق فإذا تخرق كان ضامنا وهذا في الأجير بالحفظ ظاهر ، وكذلك في القصار فإنه لا يتوصل إلى إقامة العمل إلا بالحفظ ، والعمل مستحق عليه وما لا يتوصل إلى المستحق إلا به يكون مستحقا

والمستحق بالمعاوضة السليم دون المعيب والبدل ، وإن لم يكن بمقابلة الحفظ هنا لكن لما كان مستحقا بعقد المعاوضة تعتبر فيه صفة السلامة كأوصاف المبيع إلا أن ما لا يمكن التحرز عنه يكون عفوا كما في السراية في حق النزاع فإنه عفو ; لأنه لا يستطاع الامتناع منه والقياس ما قاله أبو حنيفة رحمه الله ; لأنه قبض العين بإذن المالك لمنفعته وهو إقامة العمل له فيه فلا يكون مضمونا عليه كالمودع وأجير الواحد وهذا ; لأن الضمان إما أن يكون ضمان عقد ، أو ضمان جبران والعقد وارد على العمل لا على العين فلا تصير العين به مضمونة والجبران للفوات وهو ما فوت على المالك شيئا حين قبضه بإذنه وبهذا الطريق لا يضمن أجير الواحد ، فكذلك المشترك وهما يقولان يستحسن فنضمن المشترك احتياطا بخلاف الخاص فالعين هناك في يد صاحبه ; لأن أجير الخاص يعمل له في بيته ولأن البدل هناك ليس بمقابلة العمل فلا يشترط فيه السلامة عن العيب ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول : هذا نظر فيه ضرر في حق الأجير وهو أن يلزمه ما لم يلتزمه ونظر الشرع [ ص: 104 ] للكل فمن النظر للأجير أن لا يكون مضمونا عليه

ولما تساوى الجانبان لم يجب الضمان بالشك وما قال : إنما يستقيم أن لو كان التلف يتولد من الحفظ كما يتولد من العمل ولا يتصور تولد التلف من الحفظ إلا أن يضيع بترك الحفظ وعند ذلك هو ضامن لا أجر عند أبي حنيفة رحمه الله ; لأن المعقود عليه الوصف الحادث في الثوب بعمله وقد فات قبل تمام التسليم على صاحبه فلا أجر له بخلاف أجير الواحد فالمعقود عليه هناك منافعه في المدة وقد تم التسليم فيه فبهلاك العين عنده لا يبطل الأجر وأما عندهما رب الثوب بالخيار إن شاء ضمنه قيمة الثوب قصورا وأعطاه الأجر ، وإن شاء ضمنه قيمته غير مقصور ولا أجر له ; لأن المعقود عليه صار مسلما من وجه باتصاله بالثوب إلا أنه لم يتم التسليم حتى تغير إلى البدل وهو ضمان القيمة فيتخير صاحب الثوب إن شاء رضي به متغيرا فضمنه قيمته مقصورا وأعطاه الأجر ، وإن شاء لم يرض بالتغير وفسخ العقد فيه فيضمنه قيمة ثوبه أبيض بمنزلة ما لو قبل المبيع قبل القبض ; فإنه يتخير المشتري ، فأما إذا تلف بعمله بأن دق الثوب فتخرق فهو ضامن عندنا .

وقال زفر رحمه الله لا ضمان عليه إن لم يجاوز الحد المعتاد وللشافعي رحمه الله فيه قولان في أحد القولين يقول : هو ضامن سواء تلف بفعله أو بغير فعله وفي قوله الآخر يقول : لا ضمان عليه سواء تلف بفعله ، أو بغير فعله ، وجه قول زفر رحمه الله أنه عمل مأذون فيه فما تلف بسببه لا يكون مضمونا عليه كالمعين في الدق وأجير الواحد ، وبيانه أنه استأجره ليدق الثوب ، والدق عمل معلوم بحده وهو إرسال المدقة على المحل من غير عنف وقد أتى بتلك الصفة فكان مأذونا فيه ، ثم التخرق إنما كان لو هاء في الثوب وليس في وسع العامل التحرز من ذلك ، فهو نظير البزاغ والفصاد والحجام والختان إذا سرى إلى النفس لا يجب الضمان عليهم لهذا المعنى وهذا ; لأن العمل مستحق عليه بعقد المعاوضة وما يستحق على المرء لا يبعد بما ليس في وسعه وبه فارق المشي في الطريق والرمي إلى الهدف ; فإنه مباح غير مستحق عليه فقيد بشرط السلامة والدليل عليه أن أجير القصار إذا دق فتخرق الثوب لم يجب الضمان على الأجير ، وعندكم يجب الضمان على الأستاذ فإن كان هذا العمل مأذونا فيه لم يجب الضمان على أحد ، وإن لم يكن مأذونا فيه فهو موجب للضمان على من باشره فأما أن يقال : من باشره لا يضمن وغيره يضمن بسببه فهو بعيد جدا وحجتنا في ذلك أن التلف حصل بفعل غير مأذون فيه فيكون مأذونا كما لو دق الثوب بغير أمره

وبيان ذلك أن الإذن ثابت بمقتضى العقد ، والمعقود عليه عمل في الذمة ، والعقد عقد [ ص: 105 ] معاوضة فمطلقه يقتضي سلامة المعقود عليه عن العيب كعقد البيع وما في الذمة يعرف بصفته والموصوف بأنه سليم غير الموصوف بأنه معيب فإذا ثبت أن المعقود عليه العمل السليم المزين للثوب عرفنا أن المعيب المخرق للثوب غير المعقود عليه فلا يكون مأذونا فيه وبه فارق أجير الواحد ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول : هناك البدل ليس بمقابلة السليم بل بمقابلة تسليم النفس دون العمل وصفة السلامة في العمل بمقتضى عقد المعاوضة إلا أن هذا ليس بقوي فالمعقود عليه في الموضعين العمل والبدل بمقابلة المقصود إلا أن هناك يقام تسليم النفس مقام العمل دفعا للضرر عن الأجير لتضيق مدة التسليم عليه

وهذا لا يدل على أنه إذا وجد ما هو المقصود لا يكون البدل بمقابلته كما يقام تسليم النفس في النكاح مقام ما هو المقصود ، ثم إذا وجد ما هو المقصود وهو الوطء كان البدل بمقابلته فالصحيح أن يقول : المعقود عليه في حق أجير الواحد منافعه ولهذا يشترط إعلامه ببيان المدة ومنافعه عين والعين لا تختلف بكونه سليما ، أو معيبا كما في بيع العين ; فإنه ، وإن وجد بالمعقود عليه عيبا لا يخرج العقد به من أن يكون متناولا له فعرفنا أن الإذن متناول للعمل معيبا كان ، أو سليما وهنا المعقود عليه عمل في الذمة بمنزلة المسلم فيه وعقد السلم إذا تناول الجيد لا يكون الرديء معقودا عليه ما لم يسقط حقه في الجودة بالرضاء به ، فهنا ما دام العمل السليم معقودا عليه لا يكون المعيب معقودا عليه إلا أن يرضى به ، وهذا بخلاف المعين ; فإنه واهب للعمل والهبة لا تقتضي السلامة عن العيب فبالتخرق لا يخرج العمل من أن يكون مأذونا فيه ، وبخلاف البزاغ والفصاد والحجام فهناك العمل معلوم بحده لا بصفته ; لأنه حرج والحرج الذي هو غير سار ليس في وسع البشر فإنما يلتزم بعقد المعاوضة ما يقدر على تسليمه دون ما لا يقدر ، فأما التحرز عن التخرق ففي وسع القصار في الجملة إلا أنه ربما يلحقه الحرج فيه ، وذلك لا يمنع صحة التزامه بعقد المعاوضة يوضحه أن التخرق إما أن يكون لشيء في طي الثوب ، أو لرقة في الثوب ، أو لحدة في المدقة وكل هذا يمكن الوقوف عليه عند التأمل ، فأما السراية فلضعف الطبيعة عن دفع أثر الجناية ، ولا طريق للوقوف بحال

يوضحه أن التلف هناك لا يحصل في حال العمل وإنما يكون بعد الفراغ منه بمدة والعمل مضمون عليه ; لأنه يقابله بدل مضمون فما يقابل المضمون يكون مضمونا إلا أنه بالفراغ منه يصير مسلما إلى صاحبه فإنما حصل التلف بعد خروجه من ضمان العاقد ، وهنا التخرق يحصل في حال العمل لا بعد الفراغ من العمل وفي حال العمل التسليم لم يوجد بعد وهو عمل مضمون عليه ; لأنه يقابله [ ص: 106 ] بدل مضمون والمتولد من المضمون يكون مضمونا ، فأما أجير القصار فهو أجير واحد والبدل في حقه بمقابلة منافعه فلهذا لا يكون ضامنا ، ثم عمله للأستاذ كعمل الأستاذ بنفسه وهو لو قام بالثوب بنفسه فخرق الثوب كان ضامنا ، فكذلك إذا عمل له أجيره إذا عرفنا هذا فنقول : لصاحب الثوب الخيار إن شاء ضمنه قيمته مقصورا وأعطاه الأجر ، وإن شاء ضمنه قيمته غير مقصور ولا أجر له ( قال ) بشر بن غياث رحمه الله وهذا الجواب صحيح على أصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ; لأن عندهما قبضه قبض ضمان فله أن يضمنه قيمته وقت القبض غير مقصور ، فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فهو خطأ ; لأن عنده قبل قبض القصار قبض أمانة ، وإنما الموجب للضمان عليه العمل فيكون له أن يضمنه قيمته معمولا ولا خيار له في ذلك ولكن الأصح ما قلنا فإنا لا نقول نضمنه قيمته بالقبض ولكنه يضمنه قيمته بالإتلاف إن شاء معمولا ، وإن شاء غير معمول ; لأن العمل يصير مسلما من وجه باتصاله بالثوب ، وذلك العمل يجوز أن يكون معقودا عليه عند الرضاء به كالرديء في باب السلم مكان الجيد يكون معقودا عليه عند التجوز به فإذا وقع التغير في العمل كان له الخيار إن شاء رضي به متغيرا فضمنه قيمته معمولا وأعطاه الأجر ، وإن شاء لم يرض به فيخرج العمل به من أن يكون معقودا عليه ويضمنه قيمته غير معمول ولا أجر له ، وإن لم يهلك الثوب ، وأراد صاحبه أخذه كان للقصار أن يمنعه حتى يستوفي الأجر

وقد بينا خلاف زفر رحمه الله في هذا والحاصل أن كل أجير يكون أثر عمله قائما في المعمول كالنساج والقصار والصباغ والفتال فله حق الحبس ; لأن المعقود عليه الوصف الذي أحدثه في الثوب وهو قائم فيكون له أن يحبسه ببدله وكل من ليس لعمله أثر في المعمول كالحمال ; فإنه لا يستوجب الحبس ; لأن المعقود عليه نفس العمل ولم يبق بعد الفراغ منه فلا يكون له أن يحبس فإن ( قيل ) في القصار : عمله في إزالة الدرن والوسخ لا في إحداث البياض في الثوب فالبياض للقطن صفة أصيلة ( قلنا ) نعم ولكن لما غلب الدرن والوسخ حتى استتر به صار في حكم المعدوم وحين أظهره القصار بعمله جعل ظهوره مضافا إلى عمله فيكون أثر عمله قائما في المعمول فإن منعه فهلك فالجواب على ما بينا ; لأن المنع كان بحق فلا يكون سببا موجبا للضمان فيما ليس بمضمون ; فلهذا يستوي الهلاك بعد المنع وقبله وعلى قول زفر رحمه الله ليس له حق الحبس ، فإذا حبسه كان غاصبا ضامنا للقيمة ، وإن أراد أن يأخذ الثوب قبل تمام العمل بغير إذنه ، ويعطيه من الأجر بمقدار ما عمل لم يكن له ذلك حتى يفرغ منه ; لأن العقد لازم [ ص: 107 ] من الجانبين لكونه معاوضة فما ليس للقصار أن يفرق الصفقة على صاحب الثوب فيمتنع من إقامة بعض العمل بغير إذنه ، فكذلك لا يكون ذلك لرب الثوب وكما أن إقامة العمل مستحق على القصار فإمساك العين إلى أن يفرغ من العمل مستحق له ; ولهذا لا يأخذه منه صاحبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية