الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 110 ] 557 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدليل على المراد بقول الله عز وجل : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما

قال أبو جعفر : قد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب حديث عبد الرحمن بن أبي عمار الذي ذكرناه فيه ، وذكرنا مع ذلك ما قد لحقه مما قاله يحيى بن سعيد القطان فيه ، وما قد روي عن عمر رضي الله عنه ، وعن جابر بن عبد الله في الضبع أن فيها شاة ، وذكرنا مع ذلك دخول الضبع فيما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الناب من السباع ، وأنه قد وجب بذلك أنها غير مأكولة ، وفيما ذكرنا من ذلك أنها محرمة ، وكانت حاجتنا إلى ما نذكره في هذا الباب إن شاء الله ما قد اختلف فيه أهل العلم من المراد بقول الله عز وجل : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ، فكان المزني قد حكى لنا في ذلك عن الشافعي أن هذه الآية قد دلته على أن الذي حرمه الله عز وجل على عباده في حرمهم من الصيد هو ما كان أحل لهم أكله في حال حلهم ، وكان ابن أبي عمران يحكي لنا في ذلك مما يذكره عن أصحابه ، ومما كان يجتبيه من قولهم : إن الذي حرمه الله عز وجل على الناس في إحرامهم من الصيد هو ما كانوا يصيدونه ليأكلوه ، وما [ ص: 111 ] كانوا يصيدونه منه بجوارحهم من الكلاب ومما سواها مما يطعمونها إياه ، ومما أكله عليهم حرام كالذئاب ، وما أشبهها من ذوي الأنياب من السباع ، ومن ذوي المخالب من الطير ، ويقول : قد دخل هذا فيما حرم على المحرم اصطياده في إحرامه ، وكان الذي حكاه لنا ابن أبي عمران من ذلك عندنا أولى بتأويل الآية التي تلونا ; لأن الله عز وجل قال فيها : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فعم بذلك جميع الصيد المأكول ، وغير المأكول غير أن ابن أبي عمران قد كان أتبع ذلك حجة احتج بها فيه ، فقال : وقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خمس من الدواب يقتلن في الحرم ، والإحرام : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور . فكانت الروايات في ذلك مما نحن مستغنون عن ذكر أسانيدها ; لاتفاق الفريقين اللذين ذكرنا عليهما .

[ ص: 112 ] قال ابن أبي عمران : ولما حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بعدد معلوم عقلنا بذلك أنه لا شيء فيما أباح للمحرم قتله في إحرامه ما يخرج عن ذلك العدد إلى غيره .

قال أبو جعفر : وكانت هذه الحجة عندنا غير صحيحة ; لأنه قد يجوز أن تكون هذه الخمس مما قد أحل قتله للمحرم في إحرامه ، ويكون معها ما قد أحل له قتله في إحرامه من أجناسها سواها ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذكر في ذلك الحديث عددا لما ذكره به ، ولم يقل فيه : إنه لم يدخل فيما أحل للمحرم قتله في إحرامه من الصيد غير ذلك العدد ، فقد يجوز أن يكون قد دخل فيه ذلك العدد ، ودخل فيه من أجناسه أعداد سواه ، وقد وجدنا مثل ذلك مما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى تعدد ذكره به ، ثم ذكر في حديث سواه من ذلك الجنس بمعنى غير ذلك العدد .

3487 - وكما قد حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى العبسي ، قال : حدثنا شيبان - يعني : النحوي - ، عن الأعمش ، عن سليمان بن مسهر ، عن خرشة بن الحر ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : الذي لا يعطي شيئا إلا منة ، والمسبل إزاره الذي يجر إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر .

[ ص: 113 ] قال : فذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هؤلاء الثلاثة بما ذكرهم به فيه ، ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أخر بذلك المعنى في حديث آخر .

3488 - كما حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا عمر بن حفص بن غياث النخعي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ، لا أدري بأيها أبدأ : رجل على فضل ماء بالطريق يمنعه من ابن السبيل ، ورجل حلف على سلعة بعد العصر أخذها بكذا وكذا فصدقه الذي باعه فأخذها وهو [ ص: 114 ] كاذب ، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا ، فإن أعطاه وفى ، وإن لم يعطه لم يف ، ثم قرأ الآية التي في آل عمران .

قال أبو جعفر : فلم يكن ذكره الثلاثة الذين ذكرهم في الحديث الأول ، وحصرهم بالعدد الذي حصرهم به فيه ما ينفي أن يكون هناك ثلاثة سواهم من أهل المعنى الذي ذكرهم به فيه ، ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد ذكر ثلاثة أخر أيضا ، أنهم من أهل المعنى الذي ذكر به هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم في هذا الحديث ، وغير الثلاثة الذين ذكرهم في الحديث الذي ذكرناه قبله .

3489 - كما قد حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أنبأنا شيبان ، عن الأعمش ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر .

[ ص: 115 ] قال أبو جعفر : وأبو حازم هذا هو الأشجعي ، ولاؤه لامرأة من أشجع ، يقال لها : عزة ، وجميع من يروى عنه الحديث ممن هذه كنيته أبو حازم هذا واسمه سلمان وهو يعد في الكوفيين ، وأبو حازم سلمة بن دينار مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة يعد في المدنيين ، وأبو حازم التمار الذي يروي عنه يحيى بن سعيد الأنصاري وهو مولى لبني غفار يعد في المدنيين .

3490 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا ينظر الله إليهم : الشيخ الزاني ، والإمام الكاذب ، والعائل المزهو .

[ ص: 116 ]

3491 - وكما حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : الشيخ الزاني ، والملك الكذاب ، والعائل المزهو .

فكان ما ذكر في كل حديث من هذه الأحاديث أن من ذكر فيه من الجنس الذي ذكر فيه أنه من أهله ، وإن كان قد حصر فيه بعدد معلوم لم ينف أن يكون في ذلك الجنس غيره كان مثل ذلك الخمس اللائي ذكرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي احتج به ابن أبي عمران لا يمنع أن يكون هناك مما يدخل في ذلك المعنى مع تلك الخمس غيرها ، غير أنه يدخل له في ذلك علينا أن يقول : ألحقت بكل ثلاثة من الثلاثات المذكورات في هذه الأحاديث سواها ممن ذكر في بقية هذه الأحاديث ; لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، ولو وجدت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر السوى الخمس المذكورات في الحديث الذي [ ص: 117 ] احتججت به لألحقتها بها ، ولكني لم أجده ، فلم ألحق بها شيئا .

فنقول له : فما كانت حاجتك إلى أن تنفي بها غيرها مما لم يعلم أنها قد نفته ، ثم نقول نحن محتجين لمذهبه في ذلك : إنا قد وجدنا الله تعالى قد قال في كتابه : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فكان ظاهر هذه الآية على دخول صيد البر كله ، وعلى أنها قد عمته كله بالتحريم في حال الإحرام ، ولا يجوز أن يخرج مما قد عمه الله عز وجل بمثل هذا شيء إلا بما يجب إخراجه به من آية مسطورة أو من سنة مأثورة ، أو من إجماع من الأمة ، أن الله عز وجل لم يرد بما قد عمه ذلك الشيء ، وإنما أراد ما سواه ، وإذا عدمنا ذلك لم نخرج مما حرمه الله عز وجل بتلك الآية إلا ما قد أجمع على خروجه منه ، وهي الخمس التي في الحديث الذي احتج به ابن أبي عمران ، لا ما سواه ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية