الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 575 ] القول في تأويل قوله تعالى ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " الشهر الحرام بالشهر الحرام " ذا القعدة ، وهو الشهر الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر فيه عمرة الحديبية فصده مشركو أهل مكة عن البيت ودخول مكة سنة ست من هجرته ، وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في تلك السنة ، على أن يعود من العام المقبل ، فيدخل مكة ويقيم ثلاثا ، فلما كان العام المقبل ، وذلك سنة سبع من هجرته ، خرج معتمرا وأصحابه في ذي القعدة - وهو الشهر الذي كان المشركون صدوه عن البيت فيه في سنة ست - وأخلى له أهل مكة البلد حتى دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى حاجته منها ، وأتم عمرته ، وأقام بها ثلاثا ، ثم خرج منها منصرفا إلى المدينة فقال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمسلمين معه " الشهر الحرام " يعني ذا القعدة ، الذي أوصلكم الله فيه إلى حرمه وبيته ، على كراهة مشركي قريش ذلك ، حتى قضيتم منه وطركم " بالشهر الحرام " ، الذي صدكم مشركو قريش العام الماضي قبله فيه حتى انصرفتم عن كره منكم عن الحرم ، فلم تدخلوه ، ولم تصلوا إلى بيت الله ، فأقصكم الله أيها المؤمنون من المشركين بإدخالكم الحرم في الشهر الحرام على كره منهم لذلك ، بما كان منهم إليكم في الشهر الحرام من الصد والمنع من الوصول إلى البيت . كما :

3130 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال : حدثنا يوسف - يعني : ابن خالد السمتي - قال : حدثنا نافع بن مالك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : " والحرمات قصاص " قال : هم المشركون ، حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم [ ص: 576 ] في ذي القعدة ، فرجعه الله في ذي القعدة فأدخله البيت الحرام فاقتص له منهم .

3131 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه : " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " قال : فخرت قريش بردها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية محرما في ذي القعدة عن البلد الحرام ، فأدخله الله مكة في العام المقبل من ذي القعدة ، فقضى عمرته ، وأقصه بما حيل بينه وبينها يوم الحديبية .

3132 - حدثني المثنى قال : حدثني أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

3133 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاعتمروا في ذي القعدة ومعهم الهدي ، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون ، فصالحهم نبي الله صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك ، حتى يرجع من العام المقبل فيكون بمكة ثلاثة أيام ولا يدخلها إلا بسلاح راكب ويخرج ، ولا يخرج بأحد من أهل مكة فنحروا الهدي بالحديبية وحلقوا وقصروا . حتى إذا كان من العام المقبل ، أقبل نبي الله وأصحابه حتى دخلوا مكة فاعتمروا في ذي القعدة ، فأقاموا بها ثلاث ليال ، فكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه يوم الحديبية فأقصه الله منهم ، فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه في ذي القعدة ، فقال الله : " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " . [ ص: 577 ]

3134 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة وعن عثمان عن مقسم في قوله : " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " قال كان هذا في سفر الحديبية صد المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت في الشهر الحرام ، فقاضوا المشركين يومئذ قضية : أن لكم أن تعتمروا في العام المقبل - في هذا الشهر الذي صدوهم فيه ، فجعل الله تعالى ذكره لهم شهرا حراما يعتمرون فيه ، مكان شهرهم الذي صدوا ، فلذلك قال : " والحرمات قصاص " .

3135 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " قال : لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من مهاجره ، صده المشركون وأبوا أن يتركوه ، ثم إنهم صالحوه في صلحهم على أن يخلوا له مكة من عام قابل ثلاثة أيام ، يخرجون ويتركونه فيها ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر من السنة السابعة ، فخلوا له مكة ثلاثة أيام ، فنكح في عمرته تلك ميمونة بنت الحارث الهلالية .

3136 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك في قوله : " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " ، أحصروا النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عن البيت الحرام فأدخله الله البيت الحرام العام المقبل ، واقتص له منهم ، فقال : " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " .

3137 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر [ ص: 578 ] عن أبيه ، عن الربيع قال : أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأحرموا بالعمرة في ذي القعدة ومعهم الهدي ، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون ، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع ذلك العام حتى يرجع العام المقبل ، فيقيم بمكة ثلاثة أيام ولا يخرج معه بأحد من أهل مكة . فنحروا الهدي بالحديبية وحلقوا وقصروا . حتى إذا كانوا من العام المقبل ، أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة فاعتمروا في ذي القعدة ، وأقاموا بها ثلاثة أيام ، وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه يوم الحديبية فقاص الله له منهم ، وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه في ذي القعدة . قال الله جل ثناؤه : " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " .

3138 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس قوله : " والحرمات قصاص " فهم المشركون ، كانوا حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عن البيت ، ففخروا عليه بذلك ، فرجعه الله في ذي القعدة ، فأدخله الله البيت الحرام واقتص له منهم .

3139 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " الشهر الحرام بالشهر الحرام " حتى فرغ من الآية ، قال : هذا كله قد نسخ ، أمره أن يجاهد المشركين . وقرأ : ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) [ سورة التوبة : 36 ] وقرأ : ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) [ سورة التوبة : 123 ] العرب ، فلما فرغ منهم ، قال الله جل ثناؤه : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ) حتى بلغ قوله : ( وهم صاغرون ) [ سورة التوبة : 29 ] قال : وهم الروم . قال : فوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

3140 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال : حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية : " الشهر الحرام بالشهر الحرام [ ص: 579 ] والحرمات قصاص " قال : أمركم الله بالقصاص ، [ ويأخذ ] منكم العدوان .

3141 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء وسألته عن قوله : " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " قال : نزلت في الحديبية منعوا في الشهر الحرام ، فنزلت : " الشهر الحرام بالشهر الحرام " : عمرة في شهر حرام ، بعمرة في شهر حرام .

قال أبو جعفر : وإنما سمى الله جل ثناؤه ذا القعدة " الشهر الحرام " ، لأن العرب في الجاهلية كانت تحرم فيه القتال والقتل ، وتضع فيه السلاح ، ولا يقتل فيه أحد أحدا ، ولو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه . وإنما كانوا سموه " ذا القعدة " لقعودهم فيه عن المغازي والحروب ، فسماه الله بالاسم الذي كانت العرب تسميه به .

وأما " الحرمات " فإنها جمع " حرمة " ، " كالظلمات " جمع " ظلمة " ، " والحجرات " جمع " حجرة " . وإنما قال جل ثناؤه : " والحرمات قصاص " فجمع ، لأنه أراد : الشهر الحرام ، والبلد الحرام وحرمة الإحرام .

فقال جل ثناؤه لنبيه محمد والمؤمنين معه : دخولكم الحرم ، بإحرامكم هذا ، في شهركم هذا الحرام قصاص مما منعتم من مثله عامكم الماضي ، وذلك هو " الحرمات " التي جعلها الله قصاصا .

وقد بينا أن " القصاص " هو المجازاة من جهة الفعل أو القول أو البدن ، وهو في هذا الموضع من جهة الفعل .

التالي السابق


الخدمات العلمية