الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 78 ] يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا .

أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم ، وإقامة الحجة عليهم ، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وزع ، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تعن من فرص الموعظة والهدى إلا انتهزها ، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسموا أحوال تأثر نفوس المخاطبين ومظان ارعوائها عن الباطل ، وتبصرها في الحق ، فينجدوها حينئذ بقوارع الموعظة والإرشاد ، كما أشار إليه الحريري في المقامة 11 إذ قال : فلما ألحدوا الميت ، وفات قول ليت ، أشرف شيخ من رباوة ، متأبطا لهراوة ، فقال : لمثل هذا فليعمل العاملون إلخ . لذلك جيء بقوله : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم الآية عقب ما تقدم .

وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب لأن ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب ، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنهم شرفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك ، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنهم أوتوا الكتاب كله حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم ، وأوتوا نصيبا منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم ، فالذي لم يعملوا به منه كأنهم لم يؤتوه .

وجيء بالصلتين في قوله : بما نزلنا وقوله ( لما معكم ) دون الاسمين العلمين ، وهما : القرآن والتوراة : لما في قوله : بما نزلنا من التذكير بعظم شأن القرآن أنه منزل بإنزال الله ، ولما في قوله ( لما معكم ) من التعريض بهم في أن التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حق علمه ولا يعملون بما فيه ، على حد قوله : كمثل الحمار يحمل أسفارا .

[ ص: 79 ] وقوله : من قبل أن نطمس وجوها تهديد أو وعيد ، ومعنى من قبل أن نطمس أي آمنوا في زمن يبتدئ من قبل الطمس ، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه ، وهذا تهديد بأن يحل بهم أمر عظيم ، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلط الله عليهم ما يفسد به محياهم فإن قدرة الله صالحة لذلك ، ويحتمل أن يكون الطمس مجازا على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإن الوجوه مجامع الحواس .

والتهديد لا يقتضي وقوع المهدد به ، وفي الحديث أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله وجهه وجه حمار .

وأصل الطمس إزالة الآثار الماثلة . قال كعب :


عرضتها طامس الأعلام مجهول

وقد يطلق الطمس مجازا على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه . ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميز والمعرفة منها .

وقوله : فنردها على أدبارها عطف لمجرد التعقيب لا للتسبب ; أي من قبل أن يحصل الأمران : الطمس والرد على الأدبار ، أي تنكيس الرؤوس إلى الوراء . وإن كان الطمس هنا مجازا وهو الظاهر ، فهو وعيد بزوال وجاهة اليهود في بلاد العرب ، ورميهم بالمذلة بعد أن كانوا هناك أعزة ذوي مال وعدة ، فقد كان منهم السموأل قبل البعثة ، ومنهم أبو رافع تاجر أهل الحجاز ، ومنهم كعب بن الأشرف ، سيد جهته في عصر الهجرة .

والرد على الأدبار على هذا الوجه : يحتمل أن يكون مجازا بمعنى القهقرى ، أي إصارتهم إلى بئس المصير ; ويحتمل أن يكون حقيقة وهو ردهم من حيث أتوا ، أي إجلاؤهم من بلاد العرب إلى الشام .

والفاء على هذا الوجه للتعقيب والتسبب معا ، والكلام وعيد ، والوعيد حاصل ، فقد رماهم الله بالذل ، ثم أجلاهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - وأجلاهم عمر بن الخطاب إلى أذرعات .

[ ص: 80 ] وقوله : أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت أريد باللعن هنا الخزي ، فهو غير الطمس ، فإن كان الطمس مرادا به المسخ فاللعن مراد به الذل ، وإن كان الطمس مرادا به الذل فاللعن مراد به المسخ .

و أصحاب السبت هم الذين في قوله : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين . وقد تقدم في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية