الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون

جعل الله ترك الآخرة، وأخذ الدنيا مع قدرتهم على التمسك بالآخرة بمنزلة من أخذها ثم باعها بالدنيا، وهذه النزعة صرفها مالك رحمه الله في فقه البيوع، إذ لا يجوز الشراء على أن يختار المشتري في كل ما تختلف صفة آحاده، ولا يجوز فيه التفاضل كالحجل المذبوحة وغيرها، ولا يخفف عنهم العذاب في الآخرة، ولا ينصرون لا في الدنيا ولا في الآخرة، "والكتاب" التوراة ونصبه على المفعول الثاني لـ "آتينا"، و"قفينا" مأخوذ من القفا، تقول: قفيت فلانا بفلان إذا جئت به من قبل قفاه، ومنه قفا يقفو إذا اتبع، وهذه الآية مثل قوله تعالى: ثم أرسلنا رسلنا تترى ، وكل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام . وقرأ [ ص: 278 ] الحسن ، ويحيى بن يعمر : "بالرسل" ساكنة السين، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو: رسلنا ورسلهم. و"البينات" الحجج التي أعطاها الله عيسى ، وقيل: هي آياته من إحياء، وإبراء، وخلق طير، وقيل: هي الإنجيل، والآية تعم جميع ذلك. "وأيدناه" معناه قويناه، والأيد القوة. وقرأ ابن محيصن ، والأعرج ، وحميد "آيدناه". وقرأ ابن كثير ، ومجاهد : "روح القدس" بسكون الدال. وقرأ الجمهور بضم القاف والدال، وفيه لغة فتحهما، وقرأ أبو حيوة "بروح القدس" بواو. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: روح القدس": هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى. وقال ابن زيد : هو الإنجيل، كما سمى الله تعالى القرآن روحا. وقال السدي ، والضحاك ، والربيع ، وقتادة : "روح القدس" جبريل صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح الأقوال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : اهج قريشا ، وروح القدس معك ، ومرة قال له: وجبريل معك ، وقال الربيع ، ومجاهد : "القدس" اسم من أسماء الله تعالى كالقدوس، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك، وتوجهت لما كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى، وقيل: "القدس" الطهارة، وقيل: القدس البركة.

و"كلما" ظرف، والعامل فيه "استكبرتم"، وظاهر الكلام الاستفهام ومعناه التوبيخ [ ص: 279 ] والتقرير، ويتضمن أيضا الخبر عنهم، والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل . ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم تقوم سوقهم آخر النهار، وروي: سبعين نبيا ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار، وفي "تهوى" ضمير من صلة "ما" لطول اللفظ. والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق، وهذه الآية من ذلك، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات، وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر : فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت واستكبرتم من الكبر، و"فريقا" مفعول مقدم. وقرأ جمهور القراء: "غلف" بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل حمر و صفر، والمعنى قلوبنا عليها غلف وغشاوة فهي لا تفقه. قاله ابن عباس ، وقال قتادة : المعنى عليها طابع. وقالت طائفة: غلف بسكون اللام جمع غلاف أصله غلف بتثقيل اللام فخفف. وهذا قلما يستعمل إلا في الشعر. وقرأ الأعمش ، والأعرج وابن محيصن : "غلف" بتثقيل اللام جمع غلاف، ورويت عن [ ص: 280 ] أبي عمرو ، فالمعنى. هي أوعية للعلم والمعارف بزعمهم، فهي لا تحتاج إلى علم محمد . وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فرد الله تعالى عليهم بقوله: بل لعنهم الله بكفرهم ، و"بل" في هذه الآية نقض للأول، وإضراب عنه، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه، واللعن الإبعاد والطرد. و"قليلا" نعت لمصدر محذوف تقديره: فإيمانا قليلا ما يؤمنون، والضمير في "يؤمنون" لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، ويتجه قلة هذا الإيمان، إما لأن من آمن بمحمد منهم قليل، فيقل لقلة الرجال، قال هذا المعنى قتادة ، وإما لأن وقت إيمانهم عند ما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل، إذ قد كفروا بعد ذلك، وإما لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه، إذ هم مجسمون، فقد قللوه بجحدهم الرسول، وتكذيبهم التوراة، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك، وعلى هذا التأويل يجيء التقدير: فإيمانا قليلا، وعلى الذي قبله: فوقتا قليلا، وعلى الذي قبله فعددا من الرجال قليلا، و"ما" في قوله: ما يؤمنون زائدة مؤكدة، و "قليلا" نصب بـ" يؤمنون".

التالي السابق


الخدمات العلمية