الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 137 ] 560 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ما كان منه في حجته من أمره أم سلمة زوجته أن توافي معه صلاة الصبح في يوم النحر بمكة

3517 - حدثنا محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي المعروف بالسوسي ، قال : حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم الضرير ، عن هشام - يعني ابن عروة - ، عن أبيه ، عن زينب ، عن أم سلمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي الضحى معه بمكة يوم النحر .

[ ص: 138 ] قال أبو جعفر : فاحتج الشافعي ، كما حكى لنا المزني عنه بهذا الحديث ، وقال فيه ما قد دل على أنه صلى الله عليه وسلم قد أباحها أن تنفر من جمع قبل طلوع الفجر ; لأنه لا يمكن أن يكون ذلك منها ، مع موافاتها مكة ضحى ، إلا وقد خرجت من جمع قبل طلوع الفجر ; لبعد ما بين مكة وجمع ، وفي ذلك ما قد دل على أنها قد كانت رمت الجمرة قبل طلوع الفجر .

قال أبو جعفر : وهذا قول لم نعلم أحدا من أهل العلم سواه قاله ، ولا ذهب إليه ، فكلهم على خلافه فيه ، وعلى أنه ليس لأحد من الحاج أن يرمي جمرة العقبة في الليل قبل طلوع الفجر ، فتأملنا هذا الحديث فوجدناه إنما دار بهذا المعنى على أبي معاوية ، ووجدنا أبا [ ص: 139 ] معاوية قد اضطرب فيه ، فحدث به مرة ، كما ذكرنا ، وحدث به مرة أخرى .

3518 - كما حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا محمد بن خازم ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، قالت : أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر أن توافي معه صلاة الصبح بمكة .

قال أبو جعفر : وهذا خلاف ما في حديث محمد بن عمرو عن أبي معاوية ; لأن في هذا أمره إياها يوم النحر أن توافي معه صلاة الصبح بمكة ، فهذا على أنه أمرها يوم النحر بهذا لليوم الذي بعد يوم النحر .

3519 - وذكر لي عبد الله بن سويد البغدادي عن الأثرم ، عن أحمد بن حنبل في كتاب ناولنيه وأجازه لي عن الأثرم ، وحدثني أن الأثرم صححه له وأجازه لمن انتسخته منه فانتسخته ، فكان فيه : عن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ، عن زينب ، [ ص: 140 ] عن أم سلمة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة .

قال أبو جعفر : وفي ذلك الكتاب موصول بهذا الحديث : قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل : لم يسنده غيره - يعني أبا معاوية - وهو خطأ . قال : وقال وكيع : عن هشام ، عن أبيه مرسل : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة ، أو نحو هذا . قال أبو عبد الله : وهذا أيضا عجب ، والنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ما يصنع بمكة ؟! ينكر ذلك ، قال أبو عبد الله : فجئت إلى يحيى بن سعيد ، فسألته ، فقال : عن هشام ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي ، ليس توافيه ، قال : وبين ذين فرق يوم النحر صلاة الفجر بالأبطح ، قال : وقال لي يحيى : سل عبد الرحمن ، فسألته ، فقال : هكذا عن سفيان ، عن هشام ، عن أبيه توافي . قال الأثرم : ثم قال لي أبو عبد الله رحم الله يحيى ما كان أضبطه وأشد تفقده ، كان محدثا فأثنى عليه وأحسن الثناء .

[ ص: 141 ] قال أبو جعفر : وهذا كلام صحيح يجب به فساد هذا الحديث ، ثم طلبناه من غير حديث أبي معاوية .

3520 - فوجدنا أبا معاوية قد حدثنا ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصلي الفجر بمكة يوم النحر .

قال أبو جعفر : ولم يذكر فيه بين عروة وبين أم سلمة أحدا ، وهذا منقطع ; لأن عروة لم نعلم له سماعا من أم سلمة ، وهذا أيضا غير ما في حديث أبي معاوية ; لأن الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصلي الفجر بمكة يوم النحر ، ليس معه ، ولكن وحدها .

[ ص: 142 ]

3521 - ووجدنا أحمد بن داود بن موسى قد حدثنا ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد التيمي ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، أن يوم أم سلمة دار إلى يوم النحر ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة جمع أن تفيض ، فرمت جمرة العقبة وصلت الفجر بمكة .

3522 - ووجدنا محمد بن خزيمة قد حدثنا ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن يوم أم سلمة دار إلى يوم النحر ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرمت الجمرة ، وصلت الفجر بمكة .

قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث انقطاعه بعد عروة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها ليلة جمع أن تفيض ، فرمت الجمرة وصلت الفجر بمكة ، فقد يحتمل أن يكون رميها الجمرة في الوقت الذي رمتها فيه [ ص: 143 ] كان بغير أمره إياها بذلك ، ويكون الذي أراده صلى الله عليه وسلم منها في رميها جمرة العقبة ما أراده من غيرها من ضعفة أهله أن يرموها بعد طلوع الشمس على ما قد رويناه عنه فيما قبل هذا الباب في ذلك ، ثم نظرنا في هذا الحديث أيضا .

3523 - فوجدنا يوسف بن يزيد قد حدثنا ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا الدراوردي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تصلي الصبح يوم النفر بمكة ، وكان يومها ، فأحب أن توافقه .

3524 - ووجدنا جبر بن سعيد الحضرمي قد كتب إلي يحدثني عن محمد بن خلاد الإسكندراني ، أنه حدثه قال : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، [ ص: 144 ] عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن توافيه يوم النفر بمكة .

قال أبو جعفر : ففي هذا خلاف ما فيما تقدم من هذه القصة في الإسناد وفي المتن جميعا ; لأن هذا في إسناده رجع إلى عائشة لا إلى أم سلمة ، ولأن متنه قصد النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي أمر أم سلمة أن توافيه فيه بمكة يوم النفر لا يوم النحر ، وقد ذكرنا في باب عدد ما رماه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحصى في رميه جمرة العقبة فيما تقدم منا في كتابنا هذا ، أن إفاضة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة إنما كان في آخر يوم النحر ، ففي ذلك ما قد دل على خلاف ما في هذا الحديث الذي بدأنا بذكره من حديث أبي معاوية في قصة أم سلمة .

3525 - وما قد حدثنا يزيد بن سنان أيضا ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، قال : حدثني محمد بن طارق ، عن طاوس . وأبو الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها وابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر طواف الزيارة إلى الليل .

[ ص: 145 ] ففي هذا ما قد دل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن به حاجة إلى موافاة أم سلمة إياه يوم النحر بمكة ، وفي ذلك ما قد دل على فساد حديث أبي معاوية الذي ذكرناه في صدر هذا الباب ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية