الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ومن لم يستطع منكم (من) إما شرطية وما بعدها شرطها، وإما موصولة وما بعدها صلتها و(منكم) حال من الضمير في (يستطع) وقوله سبحانه: طولا مفعول به لـ(يستطع) وجعله مفعولا لأجله على حذف مضاف، أي: (لعدم طول) تطويل بلا طول.

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد به الغنى والسعة، وبذلك فسره ابن عباس ومجاهد، وأصله الفضل والزيادة، ومنه الطائل، وفسره بعضهم بالاعتلاء والنيل، فهو من قولهم: طلته أي نلته، ومنه قول الفرزدق:


                                                                                                                                                                                                                                      إن الفرزدق صخرة ملمومة طالت فليس تنالها الأوعالا



                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل: أن ينكح المحصنات المؤمنات أي الحرائر؛ بدليل مقابلتهن بالمملوكات، وعبر عنهن بذلك؛ لأن حريتهن أحصنتهن عن نقص الإماء، إما أن يكون متعلقا بـ(طولا) على معنى: ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات، وإما أن يكون بتقدير إلى أو اللام، والجار في موضع الصفة لـ(طولا) أي: ومن [ ص: 8 ] لم يستطع غنى موصلا إلى نكاحهن أو لنكاحهن، أو على، على أن الطول بمعنى القدرة، كما قال الزجاج، ومحل (أن) بعد الحذف جر أو نصب على الخلاف المعروف، وهذا التقدير قول الخليل، وإليه ذهب الكسائي، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من (طولا) بدل الشيء من الشيء، وهما لشيء واحد، بناء على أن الطول هو القدرة أو الفضل، والنكاح قوة وفضل، وقيل: يجوز أن يكون مفعولا لـ(يستطع) و(طولا) مصدر مؤكد له، إذ الاستطاعة هي الطول، أو تمييز، أي: ومن لم يستطع منكم استطاعة، أو من جهة الطول والغنى، أي: لا من جهة الطبيعة والمزاج؛ إذ لا تعلق لذلك بالمقام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى وتقدس: فمن ما ملكت أيمانكم جواب الشرط، أو خبر الموصول، وجاءت الفاء لما مر غير مرة، و(ما) موصولة في محل جر بـ(من) التبعيضية، والجار والمجرور متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله، وفي الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول، أي: فلينكح امرأة كائنة بعض النوع الذي ملكته أيمانكم، وأجاز أبو البقاء كون (من) زائدة أي، فلينكح ما ملكته أيمانكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: من فتياتكم أي إمائكم المؤمنات في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد إلى (ما)، وقيل: (من) زائدة و(فتياتكم) هو المفعول للفعل المقدر قبل و(مما ملكت) متعلق بنفس الفعل، و(من) لابتداء الغاية، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من هذا المفعول و(من) للتبعيض و(المؤمنات) على جميع الأوجه صفة (فتياتكم) وقيل: هو مفعول لذلك الفعل المقدر، وفيه بعد.

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر الآية يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع؛ لمفهوم الشرط، كما ذهب إليه الشافعي، وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية مطلقا؛ لمفهوم الصفة، كما هو رأي أهل الحجاز، وجوزهما الإمام الأعظم- رضي الله تعالى عنه- لإطلاق المقتضى من قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء وأحل لكم ما وراء ذلكم فلا يخرج منه شيء إلا بما يوجب التخصيص، ولم ينتهض ما ذكر حجة مخرجة، أما أولا فالمفهومان - أعني مفهوم الشرط ومفهوم الصفة - ليسا بحجة عنده- رضي الله تعالى عنه - كما تقرر في الأصول، وأما ثانيا فبتقدير الحجة مقتضى المفهومين عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة، ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه، فيجوز ثبوت الكراهة عند وجود طول الحرة، كما يجوز ثبوت الحرمة على السواء، والكراهة أقل، فتعينت، فقلنا بها، وبالكراهة صرح في البدائع، وعلل بعضهم عدم حل تزوج الأمة، حيث لم يتحقق الشرط بتعريض الولد للرق، لتثبت الحرمة بالقياس على أصول شتى، أو ليتعين أحد فردي الأعم الذي هو عدم الإباحة وهو التحريم مرادا بالأعم.

                                                                                                                                                                                                                                      واعترض بأنهم إن عنوا أن فيها تعريضا موصوفا بالحرية للرق سلمنا استلزامه للحرمة، لكن وجود الوصف ممنوع؛ إذ ليس هنا متصف بحرية عرض للرق، بل الوصفان من الحرية والرق يقارنان وجود الولد باعتبار أمه، إن كانت حرة فحر، أو رقيقة فرقيق، وإن أرادوا به تعريض الولد الذي سيوجد لأن يقارنه الرق في الوجود لا إرقاقه سلمنا وجوده ومنعنا تأثيره في الحرمة، بل في الكراهة وهذا لأنه كان له أن يحصل الولد أصلا بنكاح الآيسة ونحوها، فلأن يكون له أن يحصل رقيقا بعد كونه مسلما أولى، إذ المقصود بالذات من التناسل تكثير المقرين لله تعالى بالوحدانية والألوهية، وما يجب أن يعترف له به، وهذا ثابت بالولد المسلم، والحرية مع ذلك كمال يرجع أكثره إلى أمر دنيوي، وقد جاز للعبد أن يتزوج أمتين بالاتفاق، مع أن فيه تعريض الولد [ ص: 9 ] للرق في موضع الاستغناء عن ذلك وعدم الضرورة، وكون العبد أبا لا أثر له في ثبوت رق الولد، فإنه لو تزوج حرة كان ولده حرا، والمانع إنما يعقل كونه ذات الرق؛ لأنه الموجب للنقص الذي جعلوه محرما لا مع قيد حرية الأب، فوجب استواء العبد والحر في هذا الحكم لو صح ذلك التعليل، قاله ابن الهمام، وفيه مناقشة ما، فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الآية ما يشير إلى وهن استدلال الشيعة بالآية السابقة على حل المتعة؛ لأن الله تعالى أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإماء عند عدم الطول إلى نكاح الحرائر، فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال سبحانه بعده: ومن لم يستطع إلخ؛ لأن المتعة في صورة عدم الطول المذكور ليست قاصرة في قضاء حاجة الجماع، بل كانت - بحكم لكل جديد لذة - أطيب وأحسن على أن المتعة أخف مؤنة وأقل كلفة، فإنها مادة يكفي فيها الدرهم والدرهمان، فأية ضرورة كانت داعية إلى نكاح الإماء؟! ولعمري إن القول بذلك أبعد بعيد، كما لا يخفى على من أطلق من ربقة قيد التقليد.

                                                                                                                                                                                                                                      والله أعلم بإيمانكم جملة معترضة جيء بها تأنيسا لقلوبهم، وإزالة للنفرة عن نكاح الإماء، ببيان أن مناط التفاخر الإيمان دون الأحساب والأنساب، ورب أمة يفوق إيمانها إيمان كثير من الحرائر.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى أنه تعالى أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذي هو المدار في الدارين، فليكن هو مطمح نظركم، وقيل: جيء بها للإشارة إلى أن الإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة، ولا يشترط في ذلك العلم بالإيمان علما يقينيا؛ إذ لا سبيل إلى الوقوف على الحقائق إلا لعلام الغيوب بعضكم من بعض أي: أنتم وفتياتكم متناسبون، إما من حيث الدين، وإما من حيث النسب، وعلى الثاني يكون اعتراضا آخر مؤكدا للتأنيس من جهة أخرى، وعلى الأول يكون بيانا لتناسبهم من تلك الحيثية إثر بيان تفاوتهم في ذلك، وأيا ما كان فـ(بعضكم) مبتدأ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا له، وزعم بعضهم أن (بعضكم) فاعل للفعل المحذوف، قيل: وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير فلينكح بعضكم من بعض الفتيات، ولا ينبغي أن يخرج كتاب الله تعالى الجليل على ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      فانكحوهن بإذن أهلهن مترتب على ما قبله، ولذا صدر بالفاء، أي: فإذا وقعتم على جلية الأمر فانكحوهن إلخ، وأعيد الأمر مع فهمه مما قبله لزيادة الترغيب في نكاحهن، أو لأن المفهوم منه الإباحة، وهذا للوجوب.

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد من الأهل الموالي، وحمل الفقهاء ذلك على من له ولاية التزويج، ولو غير مالك، فقد قالوا: للأب والجد والقاضي والوصي تزويج أمة اليتيم، لكن في الظهيرية: الوصي لو زوج أمة اليتيم من عبده لا يجوز، وفي جامع الفصوليين: القاضي لا يملك تزويج أمة الغائب، وفي فتح القدير: للشريك المفاوض تزويج الأمة، وليس لشريك العنان والمضارب والعبد المأذون تزويجها عند أبي حنيفة- رضي الله تعالى عنه – ومحمد، وقال أبو يوسف: يملكون ذلك، وهذا الإذن شرط عندنا لجواز نكاح الأمة، فلا يجوز نكاحها بلا إذن، والمراد بعدم الجواز عدم النفاذ لا عدم الصحة، بل هو موقوف كعقد الفضولي، وإلى هذا ذهب مالك، وهو رواية عند أحمد، ومثل ذلك نكاح العبد، واستدلوا على عدم الجواز فيهما بما أخرجه أبو داود، والترمذي، من حديث جابر، وقال: حديث حسن، عن النبي- صلى الله عليه وسلم -قال: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» والعهر الزنا، وهو محمول على ما إذا وطئ لا بمجرد العقد، وهو زنا شرعي لا فقهي، فلم يلزم منه وجوب الحد؛ لأنه مرتب على الزنا الفقهي كما بين في الفروع، وبأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما، إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه إلا بإذن مولاهما، ونسب إلى الإمام مالك - ولم يصح - أنه يجوز نكاح العبد بلا إذن السيد؛ لأنها يملك الطلاق فيملك النكاح، وأجيب بالفرق؛ فإن الطلاق إزالة [ ص: 10 ] عيب عن نفسه بخلاف النكاح، قال ابن الهمام: لا يقال: يصح إقرار العبد على نفسه بالحد والقصاص، مع أن فيه هلاكه، فضلا عن تعييبه؛ لأنا نقول: لا يدخل تحت ملك السيد فيما يتعلق به خطاب الشرع أمرا ونهيا، كالصلاة والغسل، والصوم، والزنا، والشرب، وغيره، إلا فيما علم إسقاط الشارع إياه عنه، كالجمعة والحج، ثم هذه الأحكام تجب جزاء على ارتكاب المحظور شرعا، فقد أخرجه عن ملكه في ذلك الذي أدخله فيه باعتبار غير ذلك - وهو الشارع - زجرا عن الفساد وأعاظم العيوب، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وادعى بعض الحنفية أن الآية تدل على أن للإماء أن يباشرن العقد بأنفسهن؛ لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم، واعترض بأن عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار العدم، فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل، فلا يلزم جواز عقدهن كما لا يخفى، ولو كانت الأمة مشتركة بين اثنين مثلا لا يجوز نكاحها إلا بإذن الكل، وفي الظهيرية: لو زوج أحد الموليين أمته ودخل بها الزوج فللآخر النقض، فإن نقض فله نصف مهر المثل، وللزوج الأقل من نصف مهر المثل، ومن نصف المسمى، وحكم معتق البعض حكم كامل الرق عند الإمام الأعظم- رضي الله تعالى عنه - وعندهما يجوز نكاحه بلا إذن؛ لأنه حر مديون.

                                                                                                                                                                                                                                      وآتوهن أجورهن أي: أدوا إليهن مهورهن، بإذن أهلهن، وحذف هذا القيد لتقدم ذكره لا لأن العطف يوجب مشاركة المعطوف المعطوف عليه في القيد، ويحتمل أنه يكون في الكلام مضاف محذوف، أي: آتوا أهلهن، ولعل ما تقدم قرينة عليه، قيل: ونكتة اختيار (آتوهن) على (آتوهم) مع تقدم الأهل - على ما ذكره بعض المحققين -: أن في ذلك تأكيدا لإيجاب المهر، وإشعارا بأنه حقهن من هذه الجهة، وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين، والداعي لهذا كله أن المهر للسيد عند أكثر الأئمة؛ لأنه عوض حقه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام مالك: الآية على ظاهرها، والمهر للأمة، وهذا يوجب كون الأمة مالكة، مع أنه لا ملك للعبد، فلا بد أن تكون مالكة له يدا كالعبد المأذون له بالتجارة؛ لأن جعلها منكوحة إذن لها، فيجب التسليم إليهن، كما هو ظاهر الآية، وإن حملت الأجور على النفقات استغني عن اعتبار التقدير أولا وآخرا، وكذا إن فسر قوله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      بالمعروف بما عرف شرعا من إذن الموالي، والمعروف فيه أنه متعلق بـ(آتوهن) والمراد: أدوا إليهن من غير مماطلة وإضرار، ويجوز أن يكون حالا، أي: متلبسات بالمعروف غير ممطولات، أو متعلقا بـ(أنكحوهن) أي فانكحوهن بالوجه المعروف، يعني بإذن أهلهن ومهر مثلهن، محصنات حال، إما من مفعول (آتوهن) فهو بمعنى متزوجات، أو من مفعول (فانكحوهن) فهو بمعنى عفائف، وحمله على مسلمات وإن جاز خصوصا على مذهب الجمهور الذين لا يجيزون نكاح الأمة الكتابية، لكن هذا الشرط تقدم في قوله سبحانه: فتياتكم المؤمنات فليس في إعادته كثير جدوى، والمشهور هنا تفسير المحصنات بالعفائف، فقوله تعالى: غير مسافحات تأكيد له، والمراد: غير مجاهرات بالزنا، كما قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ولا متخذات أخدان عطف على (مسافحات) (ولا) لتأكيد ما في (غير) من معنى النفي، والأخدان جمع خدن، وهو الصاحب، والمراد هنا من تتخذه المرأة صديقا يزني بها، والجمع للمقابلة، والمعنى: ولا مسرات الزنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الزنا في الجاهلية منقسما إلى سر وعلانية، وروي عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر منه، ويقولون: إنه لؤم، ويستحلون ما خفي، ويقولون: لا بأس به، ولتحريم القسمين نزل قوله تعالى: [ ص: 11 ] ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن .

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا أحصن أي بالأزواج، كما قال ابن عباس وجماعة، وقرأ إبراهيم: (أحصن) بالبناء للفاعل، أي: أحصن فروجهن وأزواجهن، وأخرج عبد بن حميد أنه قرئ كذلك، ثم قال: إحصانها إسلامها، وذهب كثير من العلماء إلى أن المراد من الإحصان على القراءة الأولى الإسلام أيضا لا التزوج، وبعض من أراده من الآية قال: لا تحد الأمة إذا زنت ما لم تتزوج بحر، وروي ذلك مذهبا لابن عباس، وحكي عدم الحد قبل التزوج عن مجاهد وطاوس، وقال الزهري: هو فيها بمعنى التزوج.

                                                                                                                                                                                                                                      والحد واجب على الأمة المسلمة إذا لم تتزوج؛ لما في الصحيحين، عن زيد بن خالد الجهني، أن النبي- صلى الله عليه وسلم -سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: «اجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» فالمزوجة محدودة بالقرآن وغيرها بالسنة، ورجح هذا الحمل بأنه سبحانه شرط الإسلام بقوله جل وعلا: من فتياتكم المؤمنات فحمل ما هنا على غيره أتم فائدة، وإن جاز أنه تأكيد لطول الكلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر بعض المحققين أن تفسير الإحصان بالإسلام ظاهر على قول أبي حنيفة- رضي الله تعالى عنه - من جهة أنه لا يشترط في التزوج بالأمة أن تكون مسلمة، وإن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع، وهو مشكل على قول من يقول بمفهوم الشرط من الشافعية، فإنه يقتضي أن الأمة الكافرة إذا زنت لا تجلد، وليس مذهبه، كذلك فإنه يقيم الحد على الكفار، فإن أتين بفاحشة أي فإن فعلن فاحشة - وهي الزنا - وثبت ذلك، فعليهن أي: فثابت عليهن شرعا نصف ما على المحصنات أي: الحرائر الأبكار من العذاب أي الحد، الذي هو جلد مائة، فنصفه خمسون، ولا رجم عليهن؛ لأنه لا يتنصف، وهذا دفع لتوهم أن الحد لهن يزيد بالإحصان، فيسقط الاستدلال به، على أنهن قبل الإحصان لا حد عليهن، كما روي ذلك عمن تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشهاب: وعلم من بيان حالهن حال العبيد بدلالة النص، فلا وجه لما قيل: إنه خلاف المعهود؛ لأن المعهود أن يدخل النساء تحت حكم الرجال بالتبعية، وكأن وجهه أن دواعي الزنا فيهن أقوى، وليس هذا تغليبا وذكرا بطريق التبعية حتى يتجه ما ذكر، ويرد على وجه التخصيص أنه لو كان كذلك لم يدل على حكم العبيد، بل الوجه فيه أن الكلام في تزوج الإماء، فهو مقتضى الحال، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن المراد بالحال المعلوم بدلالة النص حال العبيد إذا أتوا بفاحشة لا مطلقا، فإن حال العبيد ليس حال الإماء في مسألة النكاح من كل وجه، كما بين في كتب الفروع، وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد، أنه قرئ: (فإن أتوا وأتين بفاحشة) هذا، والفاء في (فإن أتين) جواب (إذا)، والثانية جواب (إن) والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول، و من العذاب في موضع الحال من الضمير في الجار والمجرور، والعامل فيها هو العامل في صاحبها، قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون حالا من (ما) لأنها مجرورة بالإضافة، فلا يكون لها عامل (ذلك) أي: نكاح الإماء.

                                                                                                                                                                                                                                      لمن خشي العنت منكم أي لمن خاف الزنا بسبب غلبة الشهوة عليه، وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -أن نافع بن الأزرق سأله عن العنت؟ فقال: الإثم، فقال نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 12 ]

                                                                                                                                                                                                                                      رأيتك تبتغي عنتي وتسعى     مع الساعي علي بغير دخل

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: أصل العنت انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان بعد صلاح حاله، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم، بارتكاب أفحش القبائح، ويفهم من كلام كثير من اللغويين أنه حقيقة في الإثم، وكذا في الجهد والمشقة، ومنه أكمة عنوت، أي: صعبة المرتقى، وفسره الزجاج هنا بالهلاك، والذي عليه الأكثرون ما تقدم، وهو مأثول أيضا عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وقيل: المراد به الحد؛ لأنه إذا هويها يخشى أن يواقعها فيحد، ورجح القول الأول بكثرة الذاهبين إليه، مع ما فيه من الإشارة إلى أن اللائق بحال المؤمن الخوف من الزنا المفضي إلى العذاب، وفي هذا إيهام بأن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه، وأيا ما كان فهو شرط آخر لجواز تزوج الإماء عند الشافعي - عليه الرحمة - ومذهب الإمام الأعظم- رضي الله تعالى عنه - أنه ليس بشرط، وإنما هو إرشاد للأصلح، وأن تصبروا أي: وصبركم عن نكاح الإماء متعففين.

                                                                                                                                                                                                                                      خير لكم من نكاحهن، وإن رخص لكم فيه؛ لأن حق الموالي فيهن أقوى، فلا يخلصن للأزواج خلوص الحرائر، إذ هم يقدرون على استخدامهن سفرا وحضرا، وعلى بيعهن للحاضر والبادي، وفي ذلك مشقة عظيمة على الأزواج، لا سيما إذا ولد لهم منهن أولاد؛ ولأنهن ممتهنات مبتذلات خراجات ولاجات، وذلك ذل ومهانة سارية للناكح، ولا يكاد يتحمل ذلك غيور؛ ولأن في نكاحهن تعريض الولد للرق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج عبد الرزاق، وغيره، عن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه - أنه قال: «إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه، وإذا نكح الحر الأمة فقد أرق نصفه» وأخرج سعيد بن منصور، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه قال: «ما تزحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا» وعن أبي هريرة، وابن جبير، مثله.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة، عن عامر قال: «نكاح الأمة كالميتة والدم ولحم الخنزير، لا يحل إلا للمضطر».

                                                                                                                                                                                                                                      وفي مسند الديلمي والفردوس، عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الحرائر صلاح البيت، والإماء هلاك البيت».

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      ومن لم تكن في بيته قهرمانة     فذلك بيت لا أبا لك ضائع

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      إذا لم يكن في منزل المرء حرة     تدبره ضاعت مصالح داره

                                                                                                                                                                                                                                      والله غفور أي: مبالغ في المغفرة، فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن، وإنما عبر بذلك؛ تنفيرا عنه حتى كأنه ذنب رحيم أي: مبالغ في الرحمة، فلذلك رخص لكم ما رخص.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية