الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 583 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ( 195 ) )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، ومن عنى بقوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

فقال بعضهم : عنى بذلك : " وأنفقوا في سبيل الله " - وسبيل الله " طريقه الذي أمر أن يسلك فيه إلى عدوه من المشركين لجهادهم وحربهم " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " - يقول : ولا تتركوا النفقة في سبيل الله ، فإن الله يعوضكم منها أجرا ويرزقكم عاجلا .

ذكر من قال ذلك :

3144 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة والحسن بن عرفة قالا حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سفيان عن حذيفة : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : يعني في ترك النفقة .

3145 - حدثني محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا شعبة وحدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة وحدثني محمد بن خلف العسقلاني قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر الرازي عن الأعمش وحدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن عاصم جميعا ، عن شقيق عن حذيفة قال : هو ترك النفقة في سبيل الله . [ ص: 584 ]

3146 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن منصور عن أبي صالح عن عبد الله بن عباس أنه قال في هذه الآية : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : تنفق في سبيل الله ، وإن لم يكن لك إلا مشقص - أو : سهم - شعبة الذي يشك في ذلك .

3147 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن منصور عن أبي صالح الذي كان يحدث عنه الكلبي عن ابن عباس قال : إن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص أنفقته .

3148 - حدثني ابن بشار قال : حدثنا يحيى عن سفيان عن منصور عن أبي صالح عن ابن عباس : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : في النفقة .

3149 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام عن عمرو بن أبي قيس عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، قال : ليس التهلكة أن يقتل الرجل في سبيل الله ، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله .

3150 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن عكرمة قال : نزلت في النفقات في سبيل الله ، يعني قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

3151 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : كان القوم في سبيل الله ، فيتزود الرجل ، فكان أفضل زادا من الآخر . أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء ، أحب أن [ ص: 585 ] يواسي صاحبه ، فأنزل الله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

3152 - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال : حدثنا آدم قال : حدثنا شيبان عن منصور بن المعتمر عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : لا يقولن أحدكم إني لا أجد شيئا ، إن لم يجد إلا مشقصا فليتجهز به في سبيل الله .

3153 - حدثنا ابن عبد الأعلى الصنعاني قال : حدثنا المعتمر قال : سمعت داود - يعني : ابن أبي هند - عن عامر : أن الأنصار كان احتبس عليهم بعض الرزق ، وكانوا قد أنفقوا نفقات ، قال : فساء ظنهم وأمسكوا . قال : فأنزل الله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم .

3154 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : تمنعكم نفقة في حق خيفة العيلة .

3155 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : وكان قتادة يحدث أن الحسن حدثه - : أنهم كانوا يسافرون ويغزون ولا ينفقون من أموالهم أو قال : ولا ينفقون في ذلك فأمرهم الله أن ينفقوا في مغازيهم في سبيل الله . [ ص: 586 ]

3156 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يقول : لا تمسكوا بأيديكم عن النفقة في سبيل الله .

3157 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " وأنفقوا في سبيل الله " أنفق في سبيل الله ولو عقالا " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " - تقول : ليس عندي شيء .

3158 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو غسان قال : حدثنا زهير قال : حدثنا خصيف عن عكرمة في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : لما أمر الله بالنفقة ، فكانوا - أو بعضهم - يقولون : ننفق فيذهب مالنا ولا يبقى لنا شيء! قال : فقال : أنفقوا ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، قال : أنفقوا وأنا أرزقكم .

3159 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم عن يونس عن الحسن قال : نزلت في النفقة .

3160 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : أخبرنا ابن همام الأهوازي قال : أخبرنا يونس عن الحسن في " التهلكة " قال : أمرهم الله بالنفقة في سبيل الله ، وأخبرهم أن ترك النفقة في سبيل الله التهلكة .

3161 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج قال : سألت عطاء عن قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : يقول : أنفقوا في سبيل الله ما قل وكثر - قال : وقال لي عبد الله بن كثير : نزلت في النفقة في سبيل الله .

3162 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن منصور عن أبي [ ص: 587 ] صالح عن ابن عباس قال : لا يقولن الرجل لا أجد شيئا! قد هلكت! فليتجهز ولو بمشقص .

3163 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يقول : أنفقوا ما كان من قليل أو كثير . ولا تستسلموا ولا تنفقوا شيئا فتهلكوا .

3164 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك قال : " التهلكة " : أن يمسك الرجل نفسه وماله عن النفقة في الجهاد في سبيل الله .

3165 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد عن يونس عن الحسن في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، فتدعوا النفقة في سبيل الله .

وقال آخرون ممن وجهوا تأويل ذلك إلى أنه معنية به النفقة : معنى ذلك : وأنفقوا في سبيل الله ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، فتخرجوا في سبيل الله بغير نفقة ولا قوة .

ذكر من قال ذلك :

3166 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : إذا لم يكن عندك ما تنفق ، فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوة : فتلقي بيديك إلى التهلكة .

وقال آخرون : بل معناه : أنفقوا في سبيل الله ، ولا تلقوا بأيديكم - فيما أصبتم من الآثام - إلى التهلكة ، فتيأسوا من رحمة الله ، ولكن ارجوا رحمته واعملوا الخيرات . [ ص: 588 ]

ذكر من قال ذلك :

3167 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال : حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : هو الرجل يصيب الذنوب فيلقي بيده إلى التهلكة ، يقول : لا توبة لي .

3168 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو بكر بن عياش قال : حدثنا أبو إسحاق عن البراء قال : سأله رجل : أحمل على المشركين وحدي فيقتلوني ، أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ فقال : لا إنما التهلكة في النفقة . بعث الله رسوله ، فقال : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ) [ سورة النساء : 84 ] .

3169 - حدثنا الحسن بن عرفة وابن وكيع قالا حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب في قول الله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : هو الرجل يذنب الذنب فيقول : لا يغفر الله له .

3170 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء وسأله رجل فقال : يا أبا عمارة أرأيت قول الله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، أهو الرجل يتقدم فيقاتل حتى يقتل؟ قال : لا ولكنه الرجل يعمل بالمعاصي ، ثم يلقي بيده ولا يتوب .

3171 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء وسأله رجل فقال : الرجل يحمل على كتيبة وحده فيقاتل ، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال : لا ولكن التهلكة أن يذنب الذنب فيلقي بيده ، فيقول : لا تقبل لي توبة .

3172 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام عن الجراح عن أبي إسحاق قال : قلت للبراء بن عازب : يا أبا عمارة الرجل يلقى ألفا من العدو فيحمل عليهم ، وإنما هو وحده ، أيكون ممن قال : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ؟ [ ص: 589 ] فقال : لا ليقاتل حتى يقتل! قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ) .

3173 - حدثنا مجاهد بن موسى قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا هشام وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن هشام عن محمد قال : وسألت عبيدة عن قول الله : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " الآية . فقال عبيدة : كان الرجل يذنب الذنب - قال : حسبته قال : العظيم - فيلقي بيده فيستهلك زاد يعقوب في حديثه : فنهوا عن ذلك ، فقيل : " أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

3174 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا هشام عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة السلماني عن ذلك ، فقال : هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ، ويلقي بيده إلى التهلكة ، ويقول : لا توبة له! يعني قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

3175 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال : أخبرنا أيوب عن محمد عن عبيدة في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : كان الرجل يصيب الذنب فيلقي بيده .

3176 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن ابن عون عن ابن سيرين عن عبيدة : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : القنوط .

3177 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم عن يونس وهشام عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني قال : هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ، يقول : لا توبة لي! فيلقي بيده .

3178 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : حدثني أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة أنه قال : هي في الرجل يصيب الذنب العظيم فيلقي بيده ، ويرى أنه قد هلك . [ ص: 590 ]

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأنفقوا في سبيل الله ، ولا تتركوا الجهاد في سبيله .

ذكر من قال ذلك :

3179 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني حيوة عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال : غزونا المدينة يريد القسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد . قال : فصففنا صفين لم أر صفين قط أعرض ولا أطول منهما والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة قال : فحمل رجل منا على العدو ، فقال الناس : مه! لا إله إلا الله ، يلقي بيده إلى التهلكة! قال أبو أيوب الأنصاري : إنما تتأولون هذه الآية هكذا ، أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة ، أو يبلي من نفسه! إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ! إنا لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام ، قلنا بيننا معشر الأنصار خفيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه ، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها! فأنزل الله الخبر من السماء : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " الآية ، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة : أن نقيم في أموالنا ونصلحها ، وندع الجهاد . قال أبو عمران : فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية .

3180 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي وعبد الله بن أبي زياد قالا حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد قال : أخبرني حيوة وابن لهيعة قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب قال : حدثني أسلم أبو عمران مولى تجيب قال : كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله [ ص: 591 ] عليه وسلم ، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم قال : وصففنا صفا عظيما من المسلمين ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، ثم خرج إلينا مقبلا فصاح الناس وقالوا : سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل! وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار ! إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصريه ، قلنا فيما بيننا بعضنا لبعض سرا من رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت ، فلو أنا أقمنا فيها ، فأصلحنا ما ضاع منها! فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به ، فقال : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " بالإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال ونصلحها ، فأمرنا بالغزو . فما زال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله . [ ص: 592 ]

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمر بالإنفاق في سبيله بقوله : " وأنفقوا في سبيل الله " - وسبيله : طريقه الذي شرعه لعباده وأوضحه لهم . ومعنى ذلك : وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعته لكم ، بجهاد عدوكم الناصبين لكم الحرب على الكفر بي ، ونهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، فقال : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " .

وذلك مثل ، والعرب تقول للمستسلم للأمر : " أعطى فلان بيديه " ، وكذلك [ ص: 593 ] يقال للممكن من نفسه مما أريد به : " أعطى بيديه " .

فمعنى قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ، ولا تستسلموا للهلكة ، فتعطوها أزمتكم فتهلكوا .

والتارك النفقة في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه ، مستسلم للهلكة بتركه أداء فرض الله عليه في ماله . وذلك أن الله جل ثناؤه جعل أحد سهام الصدقات المفروضات الثمانية " في سبيله " ، فقال : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) إلى قوله : ( وفي سبيل الله وابن السبيل ) [ سورة التوبة : 60 ] فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه ، كان للهلكة مستسلما ، وبيديه للتهلكة ملقيا .

وكذلك الآيس من رحمة الله لذنب سلف منه ، ملق بيديه إلى التهلكة ، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال : ( : 87 ] .

وكذلك التارك غزو المشركين وجهادهم ، في حال وجوب ذلك عليه ، في حال حاجة المسلمين إليه ، مضيع فرضا ، ملق بيده إلى التهلكة .

فإذ كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ولم يكن الله عز وجل خص منها شيئا دون شيء ، فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا ، والاستسلام للهلكة - وهي العذاب - بترك ما لزمنا من فرائضه ، فغير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا ، مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه .

غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن الأغلب من تأويل الآية : وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله ، ولا تتركوا النفقة فيها ، فتهلكوا باستحقاقكم - بترككم ذلك - عذابي . كما :

3181 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية عن [ ص: 594 ] علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : التهلكة عذاب الله .

قال أبو جعفر : فيكون ذلك إعلاما منه لهم - بعد أمره إياهم بالنفقة - ما لمن ترك النفقة المفروضة عليه في سبيله ، من العقوبة في المعاد .

فإن قال قائل : فما وجه إدخال الباء في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم " ، وقد علمت أن المعروف من كلام العرب : " ألقيت إلى فلان درهما " ، دون " ألقيت إلى فلان بدرهم " ؟

قيل : قد قيل إنها زيدت نحو زيادة القائل : " الباء " في قوله : " جذبت بالثوب ، وجذبت الثوب " " وتعلقت به وتعلقته " ، و ( تنبت بالدهن ) [ سورة المؤمنون : 20 ] وإنما هو : تنبت الدهن .

وقال آخرون : " الباء " في قوله : " ولا تلقوا بأيديكم " أصل للكنية لأن كل فعل واقع كني عنه فهو مضطر إليها نحو قولك في رجل " كلمته " فأردت الكناية عن فعله ، فإذا أردت ذلك قلت : " فعلت به " قالوا : فلما كان " الباء " هي الأصل ، جاز إدخال " الباء " وإخراجها في كل " فعل " سبيله سبيل كنيته .

وأما " التهلكة " فإنها " التفعلة " من " الهلاك " .

التالي السابق


الخدمات العلمية