الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 122 ] باب الحلف بالطلاق وغير ذلك سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن يمين الغموس في الحلف بالطلاق وعن رجل قال لزوجته : لا يدخل أهلك بيتي فصعب عليه : فحلف بالطلاق الثلاث أنه ما قاله ويعلم أنه قاله .

                التالي السابق


                فأجاب : الأيمان التي يحلف بها الناس نوعان : " أحدهما " أيمان المسلمين . و " الثاني " أيمان المشركين فالقسم الثاني الحلف بالمخلوقات : كالحلف بالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء والسيف وغير ذلك مما يحلف بها كثير من الناس . فهذه الأيمان لا حرمة لها ; بل هي غير منعقدة ولا كفارة على من حنث فيها باتفاق المسلمين ; بل من حلف بها فينبغي أن يوحد الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله } وثبت عنه في الصحيح أنه قال { من حلف فليحلف بالله أو ليصمت } وفي السنن عنه . { من حلف بغير الله فقد أشرك } رواه الترمذي وصححه .

                فهذه الأيمان باتفاق الأئمة [ ص: 123 ] وأكثرهم على أن النبي نهى عنها ; بل قد روي عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما أنه قال : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي أن أحلف بغيره صادقا قال : وهذا لأن الحلف بغير الله شرك والشرك أعظم من الكذب . والنذر للمخلوقات أعظم من الحلف بها فمن نذر لمخلوق لم ينعقد نذره ولا وفاء عليه باتفاق العلماء : مثل من ينذر لميت من الأنبياء والمشايخ وغيرهم كمن ينذر للشيخ جاكير . وأبي الوفاء أو المنتظر أو الست نفيسة أو للشيخ رسلان أو غير هؤلاء وكذلك من نذر لغير هؤلاء : زيتا أو شمعا أو ستورا أو نقدا : ذهبا أو دراهم أو غير ذلك : فكل هذه النذور محرمة باتفاق المسلمين ولا يجب ; بل ولا يجوز الوفاء بها باتفاق المسلمين وإنما يوفي بالنذر إذا كان لله عز وجل وكان طاعة ; فإن النذر لا يجوز إلا إذا كان عبادة ولا يجوز أن يعبد الله إلا بما شرع .

                فمن نذر لغير الله فهو مشرك أعظم من شرك الحلف بغير الله وهو كالسجود لغير الله . ولو نذر ما ليس عبادة - كما لو نذرت المرأة صوم أيام الحيض - لم يلزم ذلك . ولا يجوز صيام أيام الحيض باتفاق المسلمين كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه } ولو نذر أن يسافر إلى قبر نبي من الأنبياء أو شيخ من المشايخ ; أو مشهده ; أو مقامه أو مسجد غير المساجد الثلاثة لم يكن عليه أن يوفي بنذره باتفاق الأئمة .

                [ ص: 124 ] وكذلك من نذر صلاة أو صوما أو صدقة أو اعتكافا أو أضحية أو هديا أو نذر أن يسافر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المقدس : ففيه " قولان " للعلماء وهما قولان للشافعي . " أحدهما " ليس عليه أن يوفي به وهو مذهب أبي حنيفة . ومن أصله أن لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع : كالصلاة والصيام والاعتكاف : فيجب بالنذر لأن الصوم واجب عنده وعند أحمد في إحدى الروايتين وعند مالك ; فلهذا وجب عنده . وإتيان المسجد ليس واجبا بالشرع فلا يجب عنده بالنذر .

                و " القول الثاني " يجب الوفاء إذا نذر إتيان المسجدين ; وهو مذهب مالك وأحمد ; لأن ذلك طاعة لله . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { من نذر أن يطيع الله فليطعه } هذا إن كان قصد أن يسافر للمسجد للصلاة فيه وللاعتكاف ونحو ذلك . وأما إذا كان قصده نفس زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا للعبادة في مسجده لم يف بهذا النذر ; نص عليه مالك وغيره من العلماء ; وليس بين الأئمة في ذلك نزاع ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } أخرجاه في الصحيحين .

                [ ص: 125 ] فمن نذر سفرا إلى بقعة ليعظمها غير هذه الثلاثة كالسفر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى بن عمران أو غار حراء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث فيه أو غار ثور الذي قال الله تعالى فيه : { ثاني اثنين إذ هما في الغار } لم يف بهذا النذر باتفاق الأئمة ; فكيف بما سوى ذلك من الغيران والكهوف وكذلك لو نذر السفر إلى قبر الخليل عليه السلام أو قبر أبي بريد أو قبر أحمد بن حنبل أو قبور أهل البقيع ; فإن زيارة القبور مشروعة لمن كان قريبا منها وكان مقصوده الدعاء للميت . فأما السفر إليها فمنهي عنه . وأما الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم فجمهور العلماء على أنه أيضا منهي عنه ولا تنعقد به اليمين ولا كفارة فيه ( هذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه . . وعنه تنعقد به اليمين .



                فصل " النوع الثاني " أيمان المسلمين . فإن حلف باسم الله فهي أيمان منعقدة بالنص والإجماع وفيها الكفارة إذا حنث . وإذا حلف بما يلتزمه لله كالحلف بالنذر والظهار والحرام والطلاق والعتاق مثل أن يقول : إن فعلت كذا فعلي عشر حجج . أو فمالي صدقة . أو : علي صيام شهر . أو : فنسائي طوالق : أو عبيدي أحرار . أو يقول : الحل علي حرام لا أفعل كذا . أو [ ص: 126 ] الطلاق يلزمني لا أفعل كذا وكذا . أو إلا فعلت كذا . وإن فعلت كذا فنسائي طوالق . أو عبيدي أحرار ونحو ذلك ; فهذه الأيمان أيمان المسلمين عند الصحابة وجمهور العلماء وهي أيمان منعقدة . وقال طائفة : بل هو من جنس الحلف بالمخلوقات فلا تنعقد . والأول أصح وهو قول الصحابة ; فإن عمر وابن عمر وابن عباس وغيرهم كانوا ينهون عن النوع الأول .

                وكانوا يأمرون من حلف بالنوع الثاني أن يكفر عن يمينه ولا ينهونه عن ذلك فإن هذا من جنس الحلف بالله والنذر لله وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { كفارة النذر كفارة يمين } فقول القائل : لله علي أن أفعل كذا . إن قصد به اليمين فهو يمين ; كما لو قال : لله علي كذا . أو إن أقتل فلانا فعلي كفارة : في مذهب أحمد وأبي حنيفة وهو الذي ذكره الخراسانيون في مذهب الشافعي . فالذين قالوا : هذا يمين منعقدة .

                منهم من ألزم الحالف بما التزمه فألزمه إذا حنث بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام وهو قول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة . ومنهم من فرق بين الطلاق والعتاق وبين غيرهما . وهو المعروف عن الشافعي . ومنهم من فرق بين النذر وغيره وهو المشهور عن أحمد ومنهم من فرق بين الطلاق وغيره وهو أبو ثور . والصحيح أن هذه الأيمان كلها فيها كفارة إذا حنث ولا يلزمه إذا حنث لا نذر ولا طلاق ولا عتاق ولا حرام . وهذا معنى أقوال الصحابة فقد ثبت النقل عنهم صريح بذلك في الحلف بالعتق والنذر .

                وتعليلهم وعموم كلامهم [ ص: 127 ] يتناول الحلف بالطلاق وقد ثبت عن غير واحد من السلف أنه لا يلزم الحلف بالطلاق طلاقا كما ثبت عن طاووس وعكرمة وعن أبي جعفر وجعفر ابن محمد . ومن هؤلاء من ألزم الكفارة وهو الصحيح . ومنهم من لم يلزمه الكفارة . فللعلماء في الحلف بالطلاق أكثر من " أربعة أقوال " قيل : يلزمه مطلقا ; كقول الأربعة . وقيل : لا يلزمه مطلقا ; كقول أبي عبد الرحمن الشافعي وابن حزم وغيرهما . وقيل : إن قصد به اليمين لم يلزمه وهو أصح الأقوال ; وهو معنى قول الصحابة " اليمين " .



                ففي لزوم الكفارة " قولان " أصحهما أنه يلزمه إذا كانت اليمين على مستقبل فإن كانت اليمين على ماض أو حاضر قصده به الخبر - لا الحض والمنع - كقوله : والله لقد فعلت كذا . أو لم أفعله . وقوله : الطلاق يلزمني لقد فعلت كذا . أو لم أفعله . أو الحل علي حرام لقد فعلت كذا . فهذا إما أن يكون معتقدا صدق نفسه ; أو يعلم أنه كاذب ; فإن كان يعتقد صدق نفسه " ففيه ثلاثة أقوال " . " أحدها " لا يلزمه شيء في جميع هذه الأيمان ; وهذا أظهر قولي الشافعي ; والرواية الثانية عن أحمد . فمن حلف بالطلاق والعتاق أو غيرهما [ ص: 128 ] على شيء يعتقده كما لو حلف عليه فتبين بخلافه فلا شيء عليه على هذا القول وهذا أصح الأقوال .

                " والثاني " يكون كالحلف على المستقبل في الجميع وهذا هو القول الثاني للشافعي والرواية الثانية عن أحمد . فعلى هذا تلزمه الكفارة فيما يكفره " والقول الثالث " أن يمينه إذا كانت مكفرة كالحلف بسم الله فلا شيء عليه ; بل هذا من لغو اليمين ; وإن كانت غير مكفرة كالحلف بالطلاق والعتاق لزمه ذلك وهذا مذهب مالك ; وأبي حنيفة وأحمد في المشهور فإذا كانت اليمين غموسا - وهو أن يحلف كاذبا عالما بكذب نفسه - فهذه اليمين يأثم بها باتفاق المسلمين وعليه أن يستغفر الله منها وهي كبيرة من الكبائر ; لا سيما إن كان مقصوده أن يظلم غيره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان } ثم إن كانت مما يكفر : ففيها كفارة عند الشافعي وأحمد في رواية وأما الأكثرون فقالوا : هذه أعظم من أن تكفر وهذا قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه . قالوا : والكبائر لا كفارة فيها كما لا كفارة في السرقة والزنا وشرب الخمر ; وكذلك قتل العمد لا كفارة فيه عند الجمهور .

                [ ص: 129 ] وإذا حلف بالتزام يمين غموس كالصورة التي سأل عنها السائل مثل أن يقول : الحل عليه حرام ما فعلت كذا . أو الطلاق يلزمني ما فعلت كذا . أو إن فعلت كذا . فمالي صدقة . أو فعلي الحج . أو فنسائي طوالق . أو عبيدي أحرار . فقيل : تلزمه هذه اللوازم إذا قلنا لا كفارة في الغموس ; وإن قلنا : هذه أيمان مكفرة في المستقبل ; لأنه لو لم يلزمه ذلك لخلت هذه الأيمان عن الكفارة ولزوم ما التزمه وهو اختيار " جدي أبي البركات " وكذلك قال محمد بن مقاتل الرازي : من حلف بالكفر يمينا غموسا كفر .

                " والقول الثاني " أن هذا كاليمين الغموس بالله هي من الكبائر ولا يلزمه ما التزمه من النذر والطلاق والحرام وهو أصح القولين وعلى هذا القول فكل من لم يقصده لم يلزمه نذر ولا طلاق ولا عتاق ولا حرام سواء كانت اليمين منعقدة أو كانت غموسا أو كانت لغوا وإنما يلزم الطلاق والعتاق والنذر لمن قصد ذلك ; فإن التعليق " نوعان " نوع يقصد به وقوع الجزاء إذا وقع الشرط : فهذا تعليق لازم . فإذا علق النذر أو الطلاق أو العتاق على هذا الوجه لزمه . فإذا قال لامرأته : إذا تطهرت من الحيض فأنت طالق . أو إذا تبين حملك فأنت طالق وقع بها الطلاق عند الصفة وكذلك إذا علقه بالهلال وكذلك لو نهاها عن أمر وقال : إن فعلته فأنت طالق : وهو إذا فعلته يريد أن يطلقها فإنه يقع به الطلاق ونحو هذا .

                [ ص: 130 ] بخلاف مثل أن ينهاها عن فاحشة أو خيانة أو ظلم فيقول : إن فعلتيه أنت طالق . فهو وإن كان يكره طلاقها ; لكن إذا فعلت ذلك المنكر كان طلاقها أحب إليه من أن يقيم معها على هذا الوجه . فهذا يقع به الطلاق فقد ثبت عن الصحابة أنهم أوقعوا الطلاق المعلق بالشرط إذا كان قصده وقوعه عند الشرط كما ألزموه بالنذر ; بخلاف من كان قصده اليمين .

                والذي قصده اليمين هو مثل الذي يكره الشرط ويكره الجزاء وإن وقع الشرط مثل أن يقول : إن سافرت معكم فنسائي طوالق وعبيدي أحرار ومالي صدقة وعلي عشر حجج . وأنا بريء من دين الإسلام ونحو ذلك فهذا مما يعرف قطعا أنه لا يريد أن تلزمه هذه الأمور وإن وجد الشرط . فهذا هو الحالف . فيجب الفرق في جميع التعليقات ومن قصده وقوع الجزاء ومن قصده اليمين . فإذا طلق امرأته طلاقا منجزا أو معلقا بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها : وقع به الطلاق إذا كان حلالا وهو أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه أو حامل قد تبين حملها . " وأما الطلاق الحرام " كما لو طلق في الحيض أو الطهر بعد أن وطئها وقبل أن يتبين حملها : ففيه نزاع . والأظهر أنه لا يلزم كما لا يلزم النكاح المحرم ونحوه . وجمع الثلاث حرام عند الجمهور . فإذا طلق ثلاثا : فهل يلزمه الثلاث ؟ أو واحدة ؟ ففيه قولان أظهرهما أنه لا يلزمه إلا واحدة . وقد بسطنا الكلام على هذه المسائل في غير هذا الموضع . والله أعلم .



                [ ص: 131 ] وقال رحمه الله تعالى إذا " حلف الرجل بالطلاق " فقال : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا ; أو لا أفعله . أو الطلاق لازم لي لأفعلنه . أو إن لم أفعله فالطلاق يلزمني . أو لازم ونحو هذه العبارات التي تتضمن التزام الطلاق في يمينه ثم حنث في يمينه : فهل يقع به الطلاق ؟ فيه " قولان " لعلماء المسلمين في المذاهب الأربعة وغيرها من مذاهب علماء المسلمين .

                " أحدهما " أنه لا يقع الطلاق وهذا منصوص عن أبي حنيفة نفسه وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي : كالقفال وأبي سعيد المتولي صاحب " التتمة " وبه يفتي ويقضي في هذه الأزمنة المتأخرة طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وغيرهم من أهل السنة والشيعة في بلاد الشرق والجزيرة والعراق وخراسان والحجاز واليمن وغيرها . وهو قول داود وأصحابه - كابن حزم وغيره - كانوا يفتون ويقضون في بلاد فارس والعراق والشام ومصر وبلاد المغرب إلى اليوم فإنهم خلق عظيم وفيهم قضاة ومفتون عدد كثير . وهو قول طائفة من السلف كطاووس وغير طاووس . وبه يفتي كثير [ ص: 132 ] من علماء المغرب في هذه الأزمنة المتأخرة من المالكية وغيرهم وكان بعض شيوخ مصر يفتي بذلك وقد دل على ذلك كلام الإمام أحمد بن حنبل المنصوص عنه وأصول مذهبه في غير موضع .



                ولو " حلف بالثلاث " فقال : الطلاق يلزمني ثلاثا لأفعلن كذا ثم لم يفعل فكان طائفة من السلف والخلف من أصحاب مالك وأحمد بن حنبل وداود وغيرهم يفتون بأنه لا يقع به الثلاث ; لكن منهم من يوقع به واحدة وهذا منقول عن طائفة من الصحابة والتابعين وغيرهم في التنجيز ; فضلا عن التعليق واليمين . وهذا قول من اتبعهم على ذلك من أصحاب مالك وأحمد وداود في التنجيز والتعليق والحلف . ومن السلف طائفة من أعيانهم فرقوا في ذلك بين المدخول بها وغير المدخول بها . والذين لم يوقعوا طلاقا بمن قال الطلاق يلزمني لأفعلن كذا : منهم من لا يوقع به طلاقا ; ولا يأمره بكفارة . ومنهم من يأمره بكفارة . وبكل من القولين أفتى كثير من العلماء . وقد بسطت أقوال العلماء في هذه المسائل وألفاظهم ومن نقل ذلك عنهم ; والكتب الموجود ذلك فيها ; والأدلة على هذه الأقوال في مواضع أخر تبلغ عدة مجلدات .

                [ ص: 133 ] وهذا بخلاف الذي ذكرته في مذهب أبي حنيفة والشافعي ; وهو فيما إذا حلف بصيغة اللزوم مثل قوله . الطلاق يلزمني ; ونحو ذلك وهذا النزاع في المذهبين سواء كان منجزا أو معلقا بشرط أو محلوفا به : ففي المذهبين : هل ذلك صريح ؟ أو كناية ؟ أو لا صريح ولا كناية فلا يقع به الطلاق وإن نواه ؟ ثلاثة أقوال . وفي مذهب أحمد قولان هل ذلك صريح ; أو كناية . وأما الحلف بالطلاق أو التعليق الذي يقصد به الحلف : فالنزاع فيه من غيرهم بغير هذه الصيغة .

                فمن قال : إن من أفتى بأن الطلاق لا يقع في مثل هذه الصورة خالف الإجماع وخالف كل قول في المذاهب الأربعة فقد أخطأ ; واقتفى ما لا علم به وقد قال الله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } بل أجمع الأئمة الأربعة وأتباعهم وسائر الأئمة مثلهم على أنه من قضى بأنه لا يقع الطلاق في مثل هذه الصورة لم يجز نقض حكمه . ومن أفتى به ممن هو من أهل الفتيا ساغ له ذلك ولم يجز الإنكار عليه باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين ولا على من قلده . ولو قضى أو أفتى بقول سائغ يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة في مسائل الأيمان والطلاق وغيرهما مما ثبت فيه النزاع بين علماء المسلمين ولم يخالف كتابا ولا سنة ولا معنى ذلك ; بل كان القاضي به والمفتي به يستدل عليه بالأدلة الشرعية - كالاستدلال بالكتاب والسنة - فإن هذا يسوغ له أن يحكم به ويفتي به .

                [ ص: 134 ] ولا يجوز باتفاق الأئمة الأربعة نقض حكمه إذا حكم ولا منعه من الحكم به ولا من الفتيا به ولا منع أحد من تقليده . ومن قال : إنه يسوغ المنع من ذلك فقد خالف إجماع الأئمة الأربعة ; بل خالف إجماع المسلمين مع مخالفته لله ورسوله ; فإن الله تعالى يقول في كتابه : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فأمر الله المؤمنين بالرد فيما تنازعوا فيه إلى الله والرسول وهو الرد إلى الكتاب والسنة . فمن قال : إنه ليس لأحد أن يرد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة ; بل على المسلمين اتباع قولنا دون القول الآخر من غير أن يقيم دليلا شرعيا - كالاستدلال بالكتاب والسنة - على صحة قوله فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع المسلمين وتجب استتابة مثل هذا وعقوبته كما يعاقب أمثاله .

                فإذا كانت المسألة مما تنازع فيه علماء المسلمين وتمسك بأحد القولين ; لم يحتج على قوله بالأدلة الشرعية - كالكتاب والسنة - وليس مع صاحب القول الآخر من الأدلة الشرعية ما يبطل به قوله : لم يكن لهذا الذي ليس معه حجة تدل على صحة قوله أن يمنع ذلك الذي يحتج بالأدلة الشرعية بإجماع المسلمين ; بل جوز أن يمنع المسلمون من القول الموافق للكتاب والسنة وأوجب على الناس اتباع القول الذي يناقضه بلا حجة شرعية توجب عليهم اتباع هذا القول وتحرم عليهم اتباع ذلك القول ; فإنه قد انسلخ من الدين تجب استتابته وعقوبته [ ص: 135 ] كأمثاله وغايته أن يكون جاهلا فيعذر بالجهل أولا حتى يتبين له أقوال أهل العلم ودلائل الكتاب والسنة ; فإن أصر بعد ذلك على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين : فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل وكل يمين من أيمان المسلمين غير اليمين بالله عز وجل : مثل الحلف بالطلاق والعتاق والظهار والحرام والحلف بالحج والمشي والصدقة والصيام وغير ذلك : فللعلماء فيها نزاع معروف عند العلماء سواء حلف بصيغة القسم فقال : الحرام يلزمني : أو العتق يلزمني : لأفعلن كذا .

                أو حلف بصيغة العتق فقال : إن فعلت كذا فعلي الحرام ونسائي طوالق أو فعبيدي أحرار أو مالي صدقة وعلي المشي إلى بيت الله تعالى . واتفقت الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين على أنه يسوغ للقاضي أن يقضي في هذه المسائل جميعها بأنه إذا حنث لا يلزمه ما حلف به ; بل إما أن لا يجب عليه شيء . وإما أن تجزيه الكفارة .

                ويسوغ للمفتي أن يقضي بذلك . وما زال في المسلمين من يفتي بذلك من حين حدث الحلف بها . وإلى هذه الأزمنة . منهم من يفتي بالكفارة فيها . ومنهم يفتي بأنه لا كفارة فيها ولا لزوم المحلوف به كما أن منهم من يفتي بلزوم المحلوف به . وهذه الأقوال الثلاثة في الأمة من يفتي بها بالحلف بالطلاق والعتاق والحرام والنذر . وأما إذا حلف بالمخلوقات كالكعبة والملائكة ; فإنه لا كفارة في هذا باتفاق المسلمين .



                [ ص: 136 ] فالأيمان " ثلاثة أقسام " : أما الحلف بالله ففيه الكفارة بالاتفاق . وأما الحلف بالمخلوقات فلا كفارة فيه بالاتفاق ; إلا الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم " قولان " في مذهب أحمد . والجمهور أنه لا كفارة فيه وقد عدى بعض أصحاب ذلك إلى جميع النبيين . وجماهير العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم على خلاف ذلك . وأما ما عقد من الأيمان بالله تعالى وهو هذه الأيمان فللمسلمين فيها " ثلاثة أقوال " وإن كان من الناس من ادعى الإجماع في بعضها : فهذا كما أن كثيرا من مسائل النزاع يدعي فيها الإجماع من لم يعلم النزاع ومقصوده أني لا أعلم نزاعا .

                فمن علم النزاع وأثبته كان مثبتا عالما وهو مقدم على النافي الذي لا يعلمه باتفاق المسلمين . وإذا كانت المسألة مسألة نزاع في السلف والخلف ولم يكن مع من ألزم الحالف بالطلاق أو غيره نص كتاب ولا سنة ولا إجماع : كان القول بنفي لزومه سائغا باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين ; بل هم متفقون على أنه ليس لأحد أن يمنع قاضيا يصلح للقضاء أن يقضي بذلك ولا يمنع مفتيا يصلح للفتيا أن يفتي بذلك ; بل هم يسوغون الفتيا والقضاء في أقوال ضعيفة ; لوجود الخلاف فيها فكيف يمنعون مثل هذا القول الذي دل عليه الكتاب والسنة والقياس الصحيح الشرعي والقول به ثابت عن السلف والخلف ; بل الصحابة الذين هم خير هذه الأمة ثبت عنهم أنهم أفتوا في الحلف بالعتق الذي هو أحب إلى الله تعالى من الطلاق : أنه لا يلزم الحالف به ; بل يجزيه [ ص: 137 ] كفارة يمين . فكيف يكون قولهم في الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله ؟ وهل يظن بالصحابة رضوان الله عليهم أنهم يقولون فيمن حلف بما يحبه الله من الطاعات - كالصلاة والصيام والصدقة والحج : أنه لا يلزمه أن يفعل هذه الطاعات بل يجزيه كفارة يمين ; ويقولون فيما لا يحبه الله ; بل يبغضه : إنه يلزم من حلف به .

                وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالكفر والإسلام أنه لا يلزمه كفر ولا إسلام . فلو قال : إن فعلت كذا فأنا يهودي وفعله لم يصر يهوديا بالاتفاق . وهل يلزمه كفارة يمين ؟ على " قولين " " أحدهما " يلزمه ; وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه . " والثاني " لا يلزمه ; وهو قول مالك والشافعي ; ورواية عن أحمد ; وذهب بعض أصحاب أبي حنيفة إلى أنه إذا اعتقد أنه يصير كافرا إذا حنث وحلف به فإنه يكفر . قالوا : لأنه مختار للكفر . والجمهور قالوا : لا يكفر ; لأن قصده أن لا يلزمه الكفر ; فلبغضه له حلف به . وهكذا كل من حلف بطلاق أو غيره إنما يقصد بيمينه أنه لا يلزمه لفرط بغضه له . وبهذا فرق الجمهور بين " نذر التبرر " و " نذر اللجاج والغضب " قالوا : لأن الأول قصده وجود الشرط والجزاء ; بخلاف الثاني . فإذا قال : إن شفى الله [ ص: 138 ] مريضي فعلي عتق رقبة . أو فعبدي حر : لزمه ذلك بالاتفاق .

                وأما إذا قال : إن فعلت كذا فعلي عتق رقبة . أو فعبدي حر . وقصده أن لا يفعله فهذا موضع النزاع : هل يلزمه العتق في الصورتين ؟ أو لا يلزمه في الصورتين ؟ أو يجزيه كفارة يمين ؟ أو يجزيه الكفارة في تعليق الوجوب دون تعليق الوقوع ؟ وهذه الأقوال الثلاثة في الطلاق ولو قال اليهودي : إن فعلت كذا فأنا مسلم وفعله لم يصر مسلما بالاتفاق لأن الحالف حلف بما يلزمه وقوعه وهكذا إذا قال المسلم : إن فعلت كذا فنسائي طوالق وعبيدي أحرار ; وأنا يهودي : وهو يكره أن يطلق نساءه ويعتق عبيده ويفارق دينه مع أن المنصوص عن الأئمة الأربعة وقوع العتق . ومعلوم أن سبعة من الصحابة : مثل ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة وحفصة وزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم أجل من أربعة من علماء المسلمين فإذا قالوا هم وأئمة التابعين إنه لا يلزمه العتق المحلوف به ; بل يجزيه كفارة يمين : كان هذا القول - مع دلالة الكتاب والسنة - إنما يدل على هذا القول .

                فكيف يسوغ لمن هو من أهل العلم والإيمان أن يلزم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقول المرجوح في الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة الشرعية مع ما لهم [ من ] مصلحة دينهم ودنياهم ; فإن [ ص: 139 ] في ذلك من صيانة أنفسهم وحريمهم وأموالهم وأعراضهم وصلاح ذات بينهم وصلة أرحامهم ; واجتماعهم على طاعة الله ورسوله ; واستغنائهم عن معصية الله ورسوله : ما يوجب ترجيحه لمن لا يكون عارفا بدلالة الكتاب والسنة ; فكيف بمن كان عارفا بدلالة الكتاب والسنة . فإن القائل بوقوع الطلاق ليس معه من الحجة ما يقاوم قول من نفى وقوع الطلاق .

                [ ولو ] اجتهد من اجتهد في إقامة دليل شرعي سالم عن المعارض المقاوم على وقوع الطلاق على الحالف لعجز عن ذلك كما عجز عن تحديد ذلك . فهل يسوغ لأحد أن يأمر بما يخالف إجماع المسلمين ويخرج عن سبيل المؤمنين ; فإن القول الذي ذهب إليه بعض العلماء . وهو لم يعارض نصا ولا إجماعا ولا ما في معنى ذلك ويقدم عليه الدليل الشرعي من الكتاب والسنة والقياس الصحيح ليس لأحد المنع من الفتيا به والقضاء به . وإن لم يظهر رجحانه فكيف إذا ظهر رجحانه بالكتاب والسنة وبين ما لله فيه من المنة . فإن الله تعالى يقول : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقال في كتابه : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير } وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 140 ] من وجوه كثيرة وفي مسلم من حديث أبي هريرة وعدي بن حاتم وأبي موسى الأشعري وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة : { إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها } وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له من أن يعطي الكفارة التي فرض الله } . وقال البخاري : من استلج في أهله فهو أعظم إثما . فقوله صلى الله عليه وسلم " يلج " من اللجاج ; ولهذا سميت هذه الأيمان " نذر اللجاج والغضب " .



                والألفاظ التي يتكلم بها الناس في الطلاق " ثلاثة أنواع " . " صيغة التنجيز . والإرسال " كقوله : أنت طالق أو مطلقة فهذا يقع به الطلاق باتفاق المسلمين . " الثاني " صيغة قسم كقوله : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا . أو لا أفعل كذا . فهذا يمين باتفاق أهل اللغة واتفاق طوائف الفقهاء واتفاق العامة واتفاق أهل الأرض . " الثالث " صيغة تعليق كقوله : إن فعلت كذا فامرأتي طالق . فهذه إن كان قصده به اليمين - وهو الذي يكره وقوع الطلاق مطلقا كما يكره . [ ص: 141 ] الانتقال عن دينه - إذا قال إن فعلت كذا فأنا يهودي . أو يقول اليهودي : إن فعلت كذا فأنا مسلم : فهو يمين حكمه حكم الأول الذي هو بصيغة القسم باتفاق الفقهاء . فإن اليمين هي ما تضمنت حضا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا بالتزام ما يكره الحالف وقوعه عند المخالفة . فالحالف لا يكون حالفا إلا إذا كره وقوع الجزاء عند الشرط .

                فإن كان يريد وقوع الجزاء عند الشرط لم يكن حالفا سواء كان يريد الشرط وحده ولا يكره الجزاء عند وقوعه أو كان يريد الجزاء عند وقوعه غير مريد له أو كان مريدا لهما . فأما إذا كان كارها للشرط وكارها للجزاء مطلقا - يكره وقوعه ; وإنما التزمه عند وقوع الشرط ليمنع نفسه أو غيره ما التزمه من الشرط ; أو ليحض بذلك - فهذا يمين . وإن قصد إيقاع الطلاق عند وجود الجزاء كقوله ; إن أعطيتني ألفا فأنت طالق وإذا طهرت فأنت طالق وإذا زنيت فأنت طالق . وقصده إيقاع الطلاق عند الفاحشة ; لا مجرد الحلف عليها : فهذا ليس بيمين ; ولا كفارة في هذا عند أحد من الفقهاء فيما علمناه ; بل يقع به الطلاق إذا وجد الشرط عند السلف وجمهور الفقهاء . [ ص: 142 ] فاليمين التي يقصد بها الحض أو المنع أو التصديق ; أو التكذيب - بالتزامه عند المخالفة ما يكره وقوعه - سواء كانت بصيغة القسم ; أو بصيغة الجزاء : يمين عند جميع الخلق من العرب وغيرهم ; فإن كون الكلام يمينا مثل كونه أمرا أو نهيا وخبرا .

                وهذا المعنى ثابت عند جميع الناس : العرب وغيرهم وإنما تتنوع اللغات في الألفاظ ; لا في المعاني ; بل ما كان معناه يمينا أو أمرا أو نهيا عند العجم فكذلك معناه يمين أو أمر أو نهي عند العرب . وهذا أيضا يمين الصحابة رضوان الله عليهم وهو يمين في العرف العام ويمين عند الفقهاء كلهم . وإذا كان " يمينا " فليس في الكتاب والسنة لليمين إلا حكمان . إما أن تكون اليمين منعقدة محترمة ففيها الكفارة . وإما أن لا تكون منعقدة محترمة - كالحلف بالمخلوقات : مثل الكعبة والملائكة ; وغير ذلك - فهذا لا كفارة فيه بالاتفاق . فأما يمين منعقدة ; محترمة غير مكفرة : فهذا حكم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يقوم دليل شرعي سالم عن المعارض المقام .

                فإن كانت هذه اليمين من أيمان المسلمين فقد دخلت في قوله تعالى للمسلمين : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } . وإن لم تكن من أيمانهم ; بل كانت من الحلف بالمخلوقات : فلا يجب بالحنث لا كفارة ولا غيرها فتكون مهدرة . [ ص: 143 ] فهذا ونحوه من دلالة الكتاب والسنة والاعتبار يبين أن الإلزام بوقوع الطلاق للحالف في يمينه حكم يخالف الكتاب والسنة وحسب القول الآخر أن يكون مما يسوغ الاجتهاد . فأما أن يقال إنه لم يجب على المسلمين كلهم العمل بهذا القول ويحرم عليهم العمل بذلك القول : فهذا لا يقوله أحد من علماء المسلمين بعد أن يعرف ما بين المسلمين من النزاع والأدلة . ومن قال بالقول المرجوح وخفي عليه القول الراجح كان حسبه أن يكون قوله سائغا لا يمنع من الحكم به والفتيا به . أما إلزام المسلمين بهذا القول ومنعهم من القول الذي دل عليه الكتاب والسنة : فهذا خلاف أمر الله ورسوله وعباده المؤمنين من الأئمة الأربعة وغيرهم . فمن منع الحكم والفتيا بعدم وقوع الطلاق وتقليد من نفى بذلك فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين .

                ولا يفعل ذلك إلا من لم يكن عنده علم فهذا حسبه أن يعذر ; لا يجب اتباعه ومعاند متبع لهواه لا يقبل الحق إذا ظهر له ولا يصغي لمن يقوله ليعرف ما قال ; بل يتبع هواه بغير هدى من الله { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } فإنه : إما مقلد وإما مجتهد . فالمقلد لا ينكر القول الذي يخالف متبوعه إنكار من يقول هو باطل فإنه لا يعلم أنه باطل ; فضلا عن أن يحرم القول به ويوجب القول بقول سلفه . والمجتهد ينظر ويناظر وهو مع ظهور قوله لا يسوغ قول منازعيه الذي ساغ فيه الاجتهاد وهو ما لم يظهر أنه خالف نصا ولا إجماعا فمن خرج عن حد [ ص: 144 ] التقليد السائغ والاجتهاد كان فيه شبه من الذين { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } وكان من اتبع هواه بغير هدى من الله .

                ومن قال إنه اتبع هذه الفتيا فولد له ولد بعد ذلك فهو ولد زنا : كان هذا القائل في غاية الجهل والضلال والمشاقة لله ولرسوله . وعلى الجملة إذا كان الملتزم به قربة لله تعالى يقصد به القرب إلى الله تعالى : لزمه فعله أو الكفارة . ولو التزم ما ليس بقربة : كالتطليق والبيع والإجارة ومثل ذلك : لم يلزمه ; بل يجزيه كفارة يمين عند الصحابة وجمهور المسلمين وهو قول الشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وقول المحققين من أصحاب مالك ; لأن الحلف بالطلاق على وجه اليمين يكره وقوعه إذا وجد الشرط كما يكره وقوع الكفر : فلا يقع وعليه الكفارة . والله أعلم .




                الخدمات العلمية