الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب حجة من رأى فرض البعيد إصابة الجهة لا العين

                                                                                                                                            657 - ( عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : ما بين المشرق والمغرب قبلة } . رواه ابن ماجه والترمذي وصححه ، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي أيوب : { ولكن شرقوا أو غربوا } . يعضد ذلك ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث الأول أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق أبي معشر ، وقد تابع أبا معشر عليه علي بن ظبيان قاضي حلب كما رواه ابن عدي في الكامل . قال : ولا أعلم يرويه عن محمد بن عمرو غير علي بن ظبيان وأبي معشر ، وهو بأبي معشر أشهر منه بعلي بن ظبيان . قال : ولعل علي بن ظبيان سرقه منه ، وذكر قول ابن معين فيه أنه ليس بشيء ، وقول النسائي : متروك الحديث ، وقد تابعه عليه أيضا أبو جعفر الرازي ، رواه البيهقي في الخلافيات . وأبو جعفر وثقه ابن معين وابن المديني وأبو حاتم ، وقال أحمد والنسائي : [ ص: 197 ] ليس بقوي . وقال العلابسي : سيئ الحفظ . وأبو معشر المذكور ضعيف . والحديث رواه أيضا الحاكم والدارقطني ، وقد أخرج الحديث الترمذي من طريق أخرى غير طريق أبي معشر ، وقال : حديث حسن صحيح ، وقد خالفه البيهقي فقال بعد إخراجه من هذه الطريق : هذا إسناد ضعيف ، فنظرنا في الإسناد فوجدنا عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تفرد به عن المقبري وقد اختلف فيه ، فقال علي بن المديني : إنه روى أحاديث مناكير ، ووثقه ابن معين وابن حبان ، فكان الصواب ما قاله الترمذي . وأما الحديث الثاني : أعني حديث أبي أيوب فهو متفق عليه ، وقد تقدم شرحه في أبواب التخلي .

                                                                                                                                            وفي الباب عن ابن عمر عند البيهقي .

                                                                                                                                            وفي الباب أيضا من قول ابن عمر عند الموطأ وابن أبي شيبة والبيهقي . ومن قول علي عند ابن أبي شيبة . ومن قول عثمان عند ابن عبد البر في التمهيد . ومن قول ابن عباس أشار إلى ذلك الترمذي . والحديث يدل على أن الفرض على من بعد عن الكعبة الجهة لا العين ، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد ، وهو ظاهر ما نقله المزني عن الشافعي . وقد قال الشافعي أيضا : إن شطر البيت وتلقاءه وجهته واحد في كلام العرب ، واستدل لذلك أيضا بحديث أخرجه البيهقي عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال { البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض مشارقها ومغاربها من أمتي } قال البيهقي : تفرد به عمر بن حفص المكي وهو ضعيف . قال : وروي بإسناد آخر ضعيف لا يحتج بمثله . وإلى هذا المذهب ذهب الأكثر ، وذهب الشافعي في أظهر القولين عنه إلى أن فرض من بعد العين وأنه يلزمه ذلك بالظن لحديث أسامة بن زيد : { أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه ولم يصل فيه حتى خرج ، فلما خرج ركع ركعتين في قبل القبلة وقال : هذه القبلة } ورواه البخاري من حديث ابن عباس مختصرا ، وقد عرفت ما قدمنا في باب صلاة التطوع في الكعبة من ترجيح أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة

                                                                                                                                            وقد اختلف في معنى حديث الباب الأول ، فقال العراقي : ليس عاما في سائر البلاد ، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المشرفة وما وافق قبلتها ، وهكذا قال البيهقي في الخلافيات ، وهكذا قال أحمد بن خالويه الوهبي . قال : ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك . قال ابن عبد البر : وهذا صحيح لا مدفع له ولا خلاف بين أهل العلم فيه . وقال الأثرم : سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث فقال : هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إن زال عنه شيئا وإن قل فقد ترك القبلة ، ثم قال : هذا المشرق وأشار بيده وهذا المغرب وأشار بيده ، وما بينهما قبلة ، قلت له : فصلاة من صلى بينهما جائز ؟ قال : نعم وينبغي أن يتحرى الوسط .

                                                                                                                                            قال ابن عبد البر : تفسير قول أحمد هذا في كل البلدان [ ص: 198 ] يريد أن البلدان كلها لأهلها في قبلتهم مثل ما لمن كانت قبلتهم بالمدينة الجنوب التي يقع لهم فيها الكعبة فيستقبلون جهتها ويتسعون يمينا وشمالا فيها ما بين المشرق والمغرب ، يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم . وكذلك لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما لأهل المدينة ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضا قبل القبلة ، إلا أنهم يجعلون المشرق عن أيمانهم والمغرب عن يسارهم . وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة من السعة فيما بين المشرق والمغرب . وكذلك ضد العراق على ضد ذلك أيضا وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام وهي لأهل مكة أوسع قليلا ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلا ثم لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرناه ا هـ

                                                                                                                                            قال الترمذي : قال ابن عمر : إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة . وقال ابن المبارك : ما بين المشرق والمغرب قبلة ، هذا لأهل المشرق ، واختار ابن المبارك التياسر لأهل مرو ا هـ . وقد يستشكل قول ابن المبارك من حيث إن من كان بالمشرق إنما يكون قبلته المغرب ، فإن مكة بينه وبين المغرب . والجواب عنه أنه أراد بالمشرق البلاد التي يطلق عليها اسم المشرق كالعراق مثلا ، فإن قبلتهم أيضا بين المشرق والمغرب قبلة لأهل العراق ، قال : وقد ورد مقيدا بذلك في بعض طرق حديث أبي هريرة : { ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل العراق } رواه البيهقي في الخلافيات .

                                                                                                                                            وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال : إذا جعلت المغرب من يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لأهل المشرق ويدل على ذلك أيضا تبويب البخاري على حديث أبي أيوب بلفظ : باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق ليس في المشرق ولا المغرب قبلة قال ابن بطال في تفسير هذه الترجمة : يعني وقبلة مشرق الأرض كلها إلا ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من المشرق إلى المغرب ، فحكم مشرق الأرض كلها كحكم مشرق أهل المدينة والشام في الأمر بالانحراف عند الغائط ، لأنهم إذا شرقوا أو غربوا لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها . قال : وأما ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من شرقها إلى مغربها فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث ، ولا يصح لهم أن يشرقوا ولا أن يغربوا ، لأنهم إذا شرقوا استدبروا القبلة واذا غربوا استقبلوها وكذلك من كان موازيا بالمغرب مكة ، إذ العلة فيه مشتركة مع المشرق فاكتفى بذكر المشرق عن المغرب ، لأن المشرق أكثر الأرض المعمورة وبلاد الإسلام في جهة مغرب الشمس قليل .

                                                                                                                                            قال : وتقدير الترجمة بأن قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق ليس في التشريق ولا في التغريب ، يعني أنهم عند الانحراف للتشريق والتغريب ليسوا بمواجهين للقبلة ولا مستدبرين لها ، والعرب [ ص: 199 ] تطلق المشرق والمغرب بمعنى التغريب والتشريق وأنشد ثعلب في المجالس .

                                                                                                                                            أبعد مغربهم نجدا وساحتها

                                                                                                                                            قال ثعلب : معناه أبعد تغريبهم انتهى . وقد أطلنا الكلام في تفسير معنى الحديث لأنه كثيرا ما يسأل عنه الناس ويستشكلونه لا سيما مع زيادة لفظ لأهل المشرق .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية