الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الثاني : آثار السماع وآدابه .

اعلم أن أول درجة السماع فهم المسموع وتنزيله على معنى يقع للمستمع ثم يثمر الفهم الوجد ويثمر الوجد الحركة بالجوارح .

فلينظر في هذه المقامات الثلاثة .

المقام الأول في الفهم وهو يختلف باختلاف أحوال المستمع .

وللمستمع أربعة أحوال إحداها : أن يكون سماع بمجرد الطبع أي لا حظ : له في السماع إلا استلذاذ الألحان والنغمات وهذا مباح وهو أخسر رتب السماع إذ الإبل شريكة له فيه وكذا سائر البهائم بل لا يستدعي هذا الذوق إلا الحياة فلكل حيوان نوع تلذذ بالأصوات الطيبة .

الحالة الثانية : أن يسمع بفهم ولكن ينزله على صورة مخلوق إما معينا وإما غير معين وهو سماع الشباب وأرباب الشهوات ويكون تنزيلهم للمسموع على حسب شهواتهم ومقتضى أحوالهم ، وهذه الحالة أخس من أن نتكلم فيها إلا ببيان خستها والنهي عنها. .

الحالة الثالثة أن : ينزل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملته لله تعالى وتقلب أحواله في التمكن مرة والتعذر أخرى ، وهذا سماع المريدين لا سيما المبتدئين فإن للمريد لا محالة مرادا هو مقصده ومقصده معرفة الله سبحانه ولقاؤه والوصول إليه بطريق المشاهدة بالسر وكشف الغطاء وله في مقصده طريق هو سالكه ومعاملات هو مثابر عليها وحالات تستقبله في معاملاته .

فإذا سمع ذكر عتاب أو خطاب أو قبول أو رد أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد أو تلهف على فائت أو تعطش إلى منتظر أو شوق إلى وارد أو طمع أو يأس أو وحشة أو استئناس أو وفاء بالوعد أو نقض للعهد أو خوف فراق أو فرح بوصال أو ذكر ملاحظة الحبيب ومدافعة الرقيب أو همول العبرات أو ترادف الحسرات أو طول الفراق أو عدة الوصال أو غير ذلك مما يشتمل على وصفه الأشعار فلا بد أن يوافق بعضها حال المريد في طلبه فيجري ذلك مجرى القدح الذي يوري زناد قلبه فتشتعل به نيرانه ويقوى به انبعاث الشوق وهيجانه ويهجم عليه بسببه أحوال مخالفة لعادته ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله .

وليس على المستمع مراعاة مراد الشاعر من كلامه بل لكل كلام وجوه ولكل ذي فهم في اقتباس المعنى منه حظوظ .

ولنضرب لهذه التنزيلات والفهوم أمثلة كي لا يظن الجاهل أن المستمع لأبيات فيها ذكر الفم والخد والصدغ إنما يفهم منها ظواهرها .

ولا حاجة بنا إلى ذكر كيفية فهم المعاني من الأبيات ، ففي حكايات أهل السماع ما يكشف عن ذلك .

فقد حكي أن بعضهم سمع قائلا يقول .


قال الرسول غدا تزور فقلت تعقل : ما تقول ؟

فاستفزه اللحن والقول وتواجد وجعل يكرر ذلك ويجعل مكان التاء نونا فيقول : " قال الرسول غدا نزور " حتى غشي عليه من شدة الفرح واللذة والسرور .

فلما أفاق سئل عن وجده مم كان فقال ؟ : ذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة مرة .

وحكى الرقي عن ابن الدراج أنه قال كنت أنا وابن الفوطي مارين على دجلة بين البصرة والأبلة فإذا بقصر حسن له منظرة وعليه رجل بين يديه جارية تغني وتقول .


كل يوم تتلون     غير هذا بك أحسن

فإذا شاب حسن تحت المنظرة وبيده ركوة وعليه مرقعة يستمع فقال : يا جارية بالله وبحياة مولاك إلا أعدت علي هذا البيت .

فأعادت فكان الشاب يقول : هذا والله تلوني مع الحق في حالي فشهق شهقة ومات، قال: فقلنا: قد استقبلنا فرض فوقفنا فقال صاحب القصر للجارية: أنت حرة لوجه الله تعالى قال ثم إن : أهل البصرة خرجوا فصلوا عليه فلما فرغوا من دفنه قال صاحب القصر أشهدكم أن كل شيء لي في سبيل الله وكل جواري أحرار، وهذا القصر للسبيل ، قال : ثم رمى بثيابه وائتزر بإزار وارتدى بآخر ومر على وجهه والناس ينظرون إليه حتى غاب عن أعينهم وهم يبكون .

فلم يسمع له بعد خبر .

والمقصود أن هذا الشخص كان مستغرق الوقت بحاله مع الله تعالى ومعرفة عجزه عن الثبوت على حسن الأدب في المعاملة وتأسفه على تقلب قلبه وميله عن سنن الحق فلما قرع سمعه ما يوافق حاله سمعه من الله تعالى كأنه يخاطبه ويقول له : .

كل يوم تتلون غير هذا بك أحسن ومن كان سماعه من الله تعالى وعلى الله وفيه .

فينبغي أن يكون قد أحكم قانون العلم في معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته .

وإلا خطر له من السماع في حق الله تعالى ما يستحيل عليه ويكفر به .

ففي سماع المريد المبتدئ خطر إلا إذا لم ينزل ما يسمع إلا على حاله من حيث لا يتعلق بوصف الله تعالى .

ومثال الخطأ فيه هذا البيت بعينه فلو سمعه في نفسه وهو يخاطب به ربه عز وجل فيضيف التلون إلى الله تعالى فيكفر وهذا قد يقع عن جهل محض مطلق غير ممزوج بتحقيق وقد يكون عن جهل ساقه إليه نوع من التحقيق وهو أن يرى تقلب أحوال قلبه بل تقلب أحوال سائر العالم من الله ، وهو حق فإنه تارة يبسط قلبه وتارة يقبضه وتارة ينوره وتارة يظلمه وتارة يقسيه وتارة يلينه وتارة يثبته على طاعته ويقويه عليها وتارة يسلط الشيطان عليه ليصرفه عن سنن الحق وهذا كله من الله تعالى .

ومن يصدر منه أحوال مختلفة في أوقات متقاربة فقد يقال له : في العادة إنه ذو بداوات وإنه متلون .

ولعل الشاعر لم يرد به إلا نسبة محبوبة إلى التلون في قبوله ورده وتقريبه وإبعاده وهذا هو ، المعنى .

فسماع هذا كذلك في حق الله تعالى كفر محض بل ينبغي أن يعلم أنه سبحانه وتعالى يلون ولا يتلون ويغير ولا يتغير بخلاف عباده .

وذلك العلم يحصل للمريد باعتقاد تقليدي إيماني .

ويحصل للعارف البصير بيقين كشفي حقيقي .

وذلك من أعاجيب أوصاف الربوبية وهو المغير من غير تغير ولا يتصور ذلك إلا في حق الله تعالى بل كل مغير سواه فلا يغير ما لم يتغير .

ومن أرباب الوجد من يغلب عليه حال مثل السكر المدهش فيطلق لسانه بالعتاب مع الله تعالى ويستنكر اقتهاره للقلوب وقسمته ، للأحوال الشريفة على تفاوت .

فإنه المستصفي لقلوب الصديقين والمبعد لقلوب الجاحدين والمغرورين فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولم يقطع التوفيق عن الكفار لجناية متقدمة ولا أمد الأنبياء عليهم السلام بتوفيقه ونور هدايته لوسيلة ، سابقة ولكنه قال : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين وقال عز وجل : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقال تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فإن خطر ببالك أنه لم اختلفت السابقة وهم في ربقة العبودية مشتركون نوديت من سرادقات الجلال لا تجاوز حد الأدب فإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولعمري ، تأدب اللسان والظاهر مما يقدر عليه الأكثرون .

فأما تأدب السر عن إضمار الاستبعاد بهذا الاختلاف الظاهر في التقريب والإبعاد والإشقاء والإسعاد مع بقاء السعادة والشقاوة أبد الآباد فلا يقوى عليه إلا العلماء الراسخون في العلم .

ولهذا قال الخضر عليه السلام لما سئل عن السماع في المنام : إنه الصفو الزلال الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء لأنه محرك لأسرار القلوب ومكامنها ومشوش لها تشويش السكر المدهش الذي يكاد يحل عقدة الأدب عن السر إلا ممن عصمه الله تعالى بنور هدايته ولطيف عصمته .

ولذلك قال بعضهم : ليتنا نجونا من هذا السماع رأسا برأس .

ففي هذا الفن من السماع خطر يزيد على خطر السماع المحرك للشهوة ، فإن غاية ذلك معصية وغاية الخطأ ههنا كفر .

واعلم أن الفهم قد يختلف بأحوال المستمع فيغلب الوجد على مستمعين لبيت واحد وأحدهما مصيب في الفهم والآخر مخطئ أو كلاهما مصيبان وقد فهما معنيين مختلفين متضادين ، ولكنه بالإضافة إلى اختلاف أحوالهما لا يتناقض .

كما حكي عن عتبة الغلام أنه سمع رجلا يقول:


سبحان جبار السما     إن المحب لفي عنا

فقال : صدقت .

وسمعه رجل آخر فقال : كذبت .

فقال بعض ذوي البصائر أصابا جميعا وهو الحق فالتصديق كلام محب غير ممكن من المراد بل مصدود متعب بالصد والهجر .

والتكذيب كلام مستأنس بالحب مستلذ لما يقاسيه بسبب فرط حبه غير متأثر به أو كلام محب غير مصدود عن مراده في الحال ولا مستشعر بخطر الصد في المآل .

، وذلك لاستيلاء الرجاء وحسن الظن على قلبه .

فباختلاف هذه الأحوال يختلف الفهم .

وحكي عن أبي القاسم بن مروان وكان قد صحب أبا سعيد الخراز رحمه الله وترك حضور السماع سنين كثيرة فحضر دعوة وفيها إنسان يقول .

:

واقف في الماء عطشان     ولكن ليس يسقى

فقام القوم وتواجدوا فلما سكنوا سألهم عن معنى ما وقع لهم من معنى البيت ، فأشاروا إلى التعطش إلى الأحوال الشريفة والحرمان منها مع حضور أسبابها فلم يقنعه ذلك فقالوا له فماذا : عندك فيه ? فقال : أن يكون في وسط الأحوال ويكرم بالكرامات ولا يعطى منها ذرة .

وهذه إشارة إلى إثبات حقيقة وراء الأحوال والكرامات ، والأحوال سوابقها والكرامات تسنح في مباديها والحقيقة بعد لم يقع الوصول إليها .

ولا فرق بين المعنى الذي فهمه وبين ما ذكروه إلا في تفاوت رتبة المتعطش إليه ، فإن المحروم عن الأحوال الشريفة أولا يتعطش إليها فإن مكن منها تعطش إلى ما وراءها فليس بين المعنيين اختلاف في الفهم بل الاختلاف بين الرتبتين .

وكان الشبلي رحمه الله كثيرا ما يتواجد على هذا البيت .


ودادكم هجر وحبكم قلى     ووصلكم صرم وسلمكم حرب

وهذا البيت يمكن سماعه على وجوه مختلفة وبعضها حق وبعضها باطل وأظهرها أن يفهم هذا في الخلق بل في الدنيا بأسرها ، بل في كل ما سوى الله تعالى .

فإن الدنيا مكارة خداعة قتالة لأربابها معادية لهم في الباطن ومظهرة صورة الود فما امتلأت منها دار حبرة إلا امتلأت عبرة .

كما ورد في الخبر وكما قال الثعلبي في وصف الدنيا .


تنح عن الدنيا فلا تخطبنها     ولا تخطبن قتالة من تناكح
فليس يفي مرجوها بمخوفها     ومكروهها أما تأملت راجح
لقد قال فيها الواصفون فأكثروا     وعندي لها وصف لعمري صالح سلاف

قصاراها زعاف ومركب شهي إذا استذللته فهو جامح وشخص جميل يؤثر الناس حسنه ، ولكن له أسرار سوء قبائح والمعنى الثاني .

أنه : ينزله على نفسه في حق الله تعالى فإنه إذا تفكر فمعرفته جهل إذ ما قدروا الله حق قدره .

وطاعته رياء إذ لا يتقي الله حق تقاته وحبه معلول إذ لا يدع شهوة من شهواته في حبه .

ومن أراد الله به خيرا بصره بعيوب نفسه فيرى مصداق هذا البيت في نفسه ، وإن كان على المرتبة بالإضافة إلى الغافلين ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك .

وقال صلى الله عليه وسلم إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة .

وإنما كان استغفاره عن أحوال هي درجات بعد بالإضافة إلى ما بعدها وإن كانت قربا بالإضافة إلى ما قبلها فلا قرب إلا ويبقى وراءه قرب لا نهاية له إذ سبيل السلوك إلى الله تعالى غير متناه والوصول إلى أقصى درجات القرب محال. .

والمعنى الثالث : أن ينظر في مبادئ أحواله فيرتضيها ثم ينظر في عواقبها فيزدريها لإطلاعه على خفايا الغرور فيها فيرى ذلك من الله تعالى فيستمع البيت في حق الله تعالى شكاية من القضاء والقدر وهذا كفر كما سبق بيانه وما من بيت إلا ويمكن تنزيله على معان وذلك بقدر غزارة علم .

المستمع وصفاء قلبه .

الحالة الرابعة : سماع من جاوز الأحوال والمقامات فعزب عن فهم ما سوى الله تعالى حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها وكان كالمدهوش الغائص في بحر عين الشهود الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف عليه السلام حتى دهشن وسقط إحساسهن .

وعن مثل هذه الحالة تعبر الصوفية بأنه قد فني عن نفسه .

ومهما فني عن نفسه فهو عن غيره أفنى ، فكأنه فني عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود .

وفني ، أيضا عن الشهود .

التالي السابق


(الباب الثاني: في آثار السماع وآدابه)

(اعلم) أولا (أن) للسماع درجات متفاوتة مترتبة وإن (أول درجة السماع فهم المسموع وتنزيله) بعد الفهم (على معنى) مناسب (يقع للمستمع ثم يثمر) ذلك الفهم (الوجد) في القلب (ويثمر الوجد) بعد تمكنه (الحركة بالجوارح فلينظر في هذه المقامات الثلاثة) ويقابل فيها (المقام الأول في الفهم وهو يختلف باختلاف أحوال المستمع) فلنبين تلك الأحوال .

(وللمستمع أربعة أحوال:

أحدهما: أن يكون سماعه بمجرد الطبع) فبما يقتضيه (أي: لا حظ له في السماع إلا استلذاذ الألحان والنغمات) الموزونة فتطربه وتثير ما في باطنه من الغرام، (وهذا مباح) لاضطراره بطبعه لذلك (وهو أخس رتب السماع إذ الإبل شريكة له فيه وكذا سائر البهائم بل لا يستدعي هذا الذوق إلا الحياة ولكل حيوان نوع تلذذ بالأصوات الطيبة) كما بينه صاحب مصارع العشاق .

(الحالة الثانية: أن يسمع بفهم ولكن ينزله على صورة مخلوق إما معين أو غير معين هو سماع الشبان) المغتلمين (وأرباب الشهوة) الغالبة على نفوسهم، (ويكون تنزيلهم للمسموع على حسب شهواتهم ومقتضى أحوالهم، وهذه الحالة أخس أن يتكلم فيها إلا ببيان خستها) ورداءتها (والنهي عنها .

الحالة الثالثة:) أن يسمع بهم ولكن (ينزل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملته مع الله تعالى وتقلب أحواله في التمكن منه مرة وتعذره أخرى، وهذا سمع المريدين) السالكين (لاسيما المبتدئين) منهم في أول درجات السلوك، (فإن للمريد لا محالة مرادا هو مقصده) لأن المريد هو الطالب ولا بد للطالب من مطلوب يطلبه يسمى لأجله طالبا، (ومقصده معرفة الله ولقاؤه والوصول إليه بطريق المشاهدة بالسر وكشف الغطاء) عن باطنه، (وله في مقصده طريق هو سالكه ومعاملات هو متاجر عليها أو حالات تستقبله في معاملته فإذا سمع ذكر أو عتاب أو خطاب أو قبول أو رد أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد أو تلهف على فائت أو تعطش إلى منتظر أو تشوق إلى وارد أو طمع أو يأس أو ووحشة أو استئناس أو ووفاء بالوعد أو نقض العهد أو خوف فراق أو فرح بوصال أو ذكر ملاحظة الحبيب ومدافعة الرقيب أو همول العبرات أو ترادف الحسرات أو طول الفراق أو عدة الوصال أو غير ذلك مما يشتمل على وصفه الأشعار) ، وأصل هذا السياق من الرسالة للقشيري ولفظه: وقال بندار بن الحسين: السماع على ثلاثة أوجه منهم من يسمع بالطبع، ومنهم من يسمع بالحال، ومنهم من يسمع بحق، فالذي يسمع بالطبع يشترك فيه الخاص والعام، فإن للجبلة البشرية استلذاذا بالصوت الطيب، والذي يسمع بالحال فهو يعامل ما يرد من ذكر عتاب أو خطاب أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد أو تأسف على فائت أو تعطش إلى آت أو ووفاء بعهد أو تصديق لوعد أو نقض لعهد أو ذكر قلق أو اشتياق أو خوف فراق أو فرح وصال أو حذر انفصال وما جرى مجراه، وأما من يسمع بالله ولله لا يتصف بهذه ألأحوال التي هي ممزوجة بالحظوظ البشرية، فإنها مبقاة مع العلل فيسمعون من حيث صفاء التوحيد بحق لا بحظ. اهـ .

(فلا بد أن يوافق بعضها تفصيل حال المريد في طلبه فيجرى ذلك مجرى [ ص: 532 ] القداح الذي يوري زناد قلبه) ويستجلب ما فيه (فتنشغل به نيرانه ويقوى به انبعاث الشوق وهيجانه وتهيج عليه بسببه أحوال مخالفة لعادته) فيضطر لذلك ويسلب اختياره (ويكون له مجال رحب) أي: واسع (في تنزيل الألفاظ على أحواله) المناسبة، (وليس على المستمع مراعاة مراد الشاعر من كلامه بل لكل كلام وجوه) مختلفة، (ولكل ذي فهم في اقتباس المعنى منه حظ) ونصيب .

(ولنضرب لهذه التنزيلات والفهم أسئلة كي لا يظن الجاهل أن المستمع لأبيات فيها ذكر الفم والخد والصدغ إنما يفهم منها ظواهرها) التي يعرفها العامة والخاصة، (ولا حاجة بنا إلى ذكر كيفية فهم المعاني من الأبيات، ففي حكايات أهل السماع ما يكشف عن ذلك) لمن طالعها وتأمل فيها، (فقد حكي أن بعضهم سمع قائلا يقول) في غنائه:


(قال الرسول غدا يزو ر فقلت: تدري ما تقول؟)

فالمراد بالرسول هو الواسطة بينه وبين حبيبه أخبر أن حبيبه يزوره في غد، فلما أخبره بذلك قال له: تدري ماذا تقول أهو حق ما تقول؟ (فاستفزه) أي: أطربه وحركه (القول واللحن وتواجد وجعل يكرر ذلك) بلسانه (ويجعل مكان الياء) التحتية من يزور (نونا فيقول: "قال الرسول غدا نزور" حتى غشي عليه من شدة الفرح واللذة والسرور، فلما أفاق من غشيته سئل عن وجده مم كان؟ قال: ذكرت قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة مرة) .

قال العراقي: رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة وفيه عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين مختلف فيه، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال: وقد روى سويد بن عمر وعن الأوزاعي شيئا من هذا. اهـ .

قلت: وروى ابن عساكر في التاريخ من حديث جابر: إن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء في الجنة، وذلك أنهم يزورون الله تعالى في كل جمعة فيقول لهم تمنوا على ما شئتم. الحديث، وقد تقدم شيء من ذلك في باب الجمعة من كتاب الصلاة .

(وحكى الرقي) أبو بكر محمد بن داود الدينوري من كبار مشايخ الشام صحب ابن الجلاء عاش إلى بعد الخمسين وثلاثمائة (عن ابن الدراج أنه قال) كذا في النسخ، وفي بعضها: عن ابن أبي الدراج، ولفظ الرسالة: سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت الدراج يقول، وهذا هو الصحيح، وهو ابن الحسن الدراج بن الحسين الرازي نزيل بغداد له ذكر في غير موضع من الرسالة (كنت أنا وابن الفوطي مارين على الدجلة بين البصرة والأبلة) بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام مدينة بالبصرة، (فإذا) نحن (بقصر حسن له منظر) ، وفي بعض النسخ: منظرة، (وعليه رجل وبين يديه جارية تغني وتقول في غنائها) :


في سبيل الله ود كان مني لك يبذل


(كل يوم تتلون)

وتلونه مع مولاه دليل قلة معرفته ولذا قال:

(غير هذا بك أجمل)

أي: أحسن

ما ترى العمر تولى ورسول الموت أقبل

(فإذا شاب تحت) تلك (المنظرة وبيده ركوة وعليه مرقعة يسمع) هذه الأبيات (فقال: يا جارية بالله وبحياة مولاك إلا أعدت علي هذا البيت) ولفظ الرسالة: يا جارية بحياة مولاك أعيدي:

كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل

(فأعادت) بإذن مولاه فقال لها الشاب: قولي، فأعادت أيضا، (فكان الشاب يقول: هذا والله تلوني مع الحق) تعالى (في حالي فشهق شهقة ومات) ولفظ الرسالة: خرجت بها روحه .

(قال فقلنا قد استقبلنا فرض) يعني: تجهيز ذلك الميت إذ هو فرض كفاية على عموم المسلمين فإن قامت به جماعة سقط عن الآخرين، (فوقفنا) لذلك (فقال صاحب القصر للجارية) لما أثر فيه صدق الشاب (أنت حرة لوجه الله تعالى قال: ثم إن أهل البصرة) لما سمعوا به (خرجوا) لجنازته (فصلوا عليه) بعد أن جهز وكفن، (فلما فرغوا من دفنه قال صاحب القصر) أليس تعرفوني (أشهدكم أن كل شيء لي) فهو (في سبيل الله وكل [ ص: 533 ] جواري أحرار، وهذا القصر للسبيل، قال: ثم رمى بثيابه وائتزر بإزار وارتدى آخر ومر على وجهه والناس ينظرون إليه حتى غاب عن أعينهم وهم يبكون فلم يسمع له بعد خبر) ولفظ الرسالة: بعد قوله: كل مماليكي أحرار، ثم ائتزر بإزار وارتدى برداء وتصدق بالقصر، ومر فلم ير له بعد ذلك وجه ولا سمع له أثر .

وأخرجه ابن الجوزي في صفوة التصوف فقال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن حبيب العامري، أخبرنا علي بن صادق، أخبرنا أبو عبد الله بن باكويه، حدثنا عبد الواحد بن بكر، حدثنا أبو بكر محمد بن داود الدينوري هو الرقي يقول: سمعت أبا إسحاق الهروي يقول: كنت مع ابن الحوطي بالبصرة فأخذ بيدي وقال: قم حتى نخرج إلى الأبلة، فلما قربنا من الأبلة ونحن نمشي على شاطئ الأبلة في الليل والقمر طالع إذ مررنا بقصر لجندي فيه جارية تضرب بالعود فوقفنا في بناء القصر نستمع، وفي جانب القصر فقير بخرقتين واقف فقالت الجارية:

كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل

فصاح الفقير وقال: أعيديه، فهذا حالي مع الله، فنظر صاحب الجارية إلى الفقير فقال لها: اتركي العود وأقبلي عليه إنه صوفي، فأخذت تقول والفقير يقول هذا حالي مع الله، والجارية تقول، إلى أن زعق الفقير زعقة خر مغشيا عليه، فحركاه فإذا هو ميت، فقلنا مات الفقير: فلما سمع صاحب القصر بموته نزل فأدخله القصر فاغتممنا وقلنا هذا يكفنه من غير وجهه، فصعق الجندي وكسر كل ما كان بين يديه، فقلنا ما يعد هذا الأخير؟ ومضينا إلى الأبلة وبتنا وعرفنا الناس، فلما أصبحنا رجعنا إلى القصر، وإذا الناس مقبلون من كل وجه إلى الجنازة، فكأنما نودي في البصرة حتى خرج القضاة والعدول وغيرهم، وإذا الجندي يمشي خلف الجنازة حافيا حاسرا حتى دفن، ثم ذكر القصة إلى آخرها .

(والمقصود أن هذا الشخص كان مستغرق الوقت بحاله مع الله تعالى ومعرفة عجزه من الثبوت على حسن الأدب في المعاملة وتأسفه عن تقلب قلبه وميله عن سنن الخلق) ، وهذا هو التلوين (فلما قرع سمعه ما يوافق حاله سمعه من الله تعالى كأنه يخاطبه ويقول له: كل يوم تتلون) يا عبدي ولا تثبت في مقام العبودية والذل لي (غير هذا بك أجمل) فاستحيا من هذا الخطاب استحياء أذهب نفسه، فإن الحياء قد يميت إذا تمكن، كما حكي أن رجلا كان بين يدي جماعة فخرج منه صوت فاستحيا ونكس رأسه وسكن فحركوه فوجدوه ميتا .

(ومن كان سماعه من الله تعالى وعلى الله) تعالى (وفيه) تعالى (فينبغي أن يكون قد أحكم قانون العلم في معرفة الله ومعرفة صفاته) على وجه ينكشف له الغطاء عن وجه الحق، (وإلا خطر له من السماع في حق الله ما يستحيل عليه ويكفر به) ، ومن هنا قال القشيري في الرسالة: ويقال السماع على قسمين سماع بشرط العلم والصحو، فمن شرط صاحبه معرفة الأسامي والصفات وإلا وقع في الكفر المحض، وسماع بشرط الحال فمن شرط صاحبه الفناء من أحوال البشرية والتنقي من آثار الحظوظ لظهور أعلام الحقيقة، (ففي سماع المريد المبتدئ خطر) عظيم (إلا إذا لم ينزل ما يسمع إلا على حاله من حيث لا يتعلق بوصف الله تعالى) ومن هنا قال القشيري في الرسالة: المريد لا تسلم له حركة في السماع بالاختيار البتة، فإن ورد عليه وارد حركه ولم يكن فيه فضل قوة فبقدر الغلبة يعذر، فإذا زالت الغلبة وجب عليه السكون فإن استدام الحركة مستجلبا للوجد من غير غلبة وضرورة لم يصح، (ومثال الخطأ فيه مثال هذا البيت) المذكور (بعينه لو سمعه) السامع (في نفسه وهو يخاطب به ربه -عز وجل- فيضيف التلون إلى الله تعالى فيكفر) ولا يشعر، (وهذا قد يقع) من المريد (عن جهل محض مطلق غير ممزوج بتحقيق) علمي وهو الغالب على السامعين، (وقد يكون عن جهل ساقه إليه نوع من التحقيق) على حسب زعمه (هو أن يرى تقلب أحواله) أي: أحوال قلبه، (بل تقلب سائر أحوال العالم من الله تعالى، وهو حق) في حد ذاته، (فإنه) تعالى بيده الأمر يقلب كيف شاء (تارة يبسط قلبه) ويشرح صدره بالواردات المناسبة للحال (وتارة يقبضه) بما يرد عليه من التجلي القهري (وتارة ينوره) بإفاضة لمعة من أنواره عليه (وتارة يظلمه) بإرخاء الحجاب وفي نسخة: يغلسه، وهو بمعناه وفي أخرى يقسيه أي: يجعله ضيفا حرجا فيقسى (وتارة يثبته على [ ص: 534 ] طاعته) كما قال الله تعالى: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة (وتارة يسلط الشيطان عليه ليصرفه عن سنن الحق) إلى السوء والفحشاء .

(وهذا) لا شك أنه (كله من الله تعالى ومن تصدر منه أفعال مختلفة في أوقات متقاربة فقد يقال: في العادة أنه ذو بدوات وأنه متلون، ولعل الشاعر لم يرد إلا نسبة محبوبه إلى التلون في قبوله ورده وتقريبه وتبعيده، وهو هذا المعنى، فسماع هذا كذلك في حق الله تعالى كفر محض) ؛ لأنه نسب إليه تعالى ما لا يليق به، (بل ينبغي أن يعلم أنه تعالى يلون ولا يتلون ويغير ولا يتغير) كل يوم هو في شأن لا يسأل عم يفعل (بخلاف عباده) فإنهم يتلونون ويتغيرون، (وذلك العلم يحصل للمريد اعتقاد تقليد إيماني) يتلقفه من أفواه من يعتقد فيه الكمال فيقلده ويعقد قلبه عليه، (ويحصل للعارف البصير بيقين كشفي حقيقي) يطمئن به قلبه وينشرح به صدره، (وذلك من أعاجيب أوصاف الربوبية وهو المغير من غير تغيير) يلحقه، (ولا يتصور ذلك إلا في حق الله تعالى بل كل مغير سواه فلا يغير ما لم يتغير، ومن أرباب الوجد من يغلب عليه حال مثل السكر المدهش) لعقله (فيطلق لسانه بالعتاب مع الله تعالى ويستنكر اقتهاره للقلوب، و) هكذا (قسمته للأحوال الشريفة على التفاوت) والتباين، (فإنه المستصفي لقلوب الصديقين) أي: جاعلها مختارة مصفاة عن الكدر قابلة لإفاضة الأنوار (والمبعد لقلوب الجاحدين) المنكرين، (والمغرورين فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع) ، كما ورد ذلك في الخبر: (ولم يقطع التوفيق عن الكفار لجناية متقدمة) فيكون ذلك القطع سببا لها، (ولا أمد الأنبياء عليهم السلام بتوفيقه ونور هدايته، الوسيلة سابقة) يمتنون بها (ولكنه قال تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين وقال -عز وجل-: ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقال الله تعالى: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك .

(فإن خطر ببالك أنه لم اختلفت السابقة وهم في رتبة العبودية مشتركون نوديت من سرادقات الجلال) تأدب (ولا تجاوز حد الأدب فإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولعمري، تأدب اللسان والظاهر مما يقدر عليه الأكثرون فأما تأدب السر عن إضمار الاستبعاد لهذا الاختلاف الظاهر في التقريب والإبعاد والإشقاء والإسعاد مع بقاء السعادة والشقاوة أبد الآباد فلا يقوى عليه إلا العلماء الراسخون في العلم) الموفقون من الله لفهم هذا وأمثاله .

(ولهذا قال الخضر -عليه السلام- لما سئل عن السماع في المنام) ما تقول في هذا السماع الذي يختلف فيه أصحابنا (فقال: إنه الصفاء والزلال) بالتشديد (الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء) ، وقد تقدم ذلك في أول هذا الكتاب وذلك (لأنه محرك لأسرار القلوب ومكامنها) أي: خوافيها (ومشوش لها تشويش السكر المدهش الذي يكاد يحل عقدة الأدب عن السر إلا ممن عصمه الله -عز وجل- بنور هدايته ولطيف عصمته ولذلك قال بعضهم) : وهو أبو علي الروزباري (لما سئل عنه فقال: ليتنا نجونا من هذا السماع رأسا برأس) نقله القشيري في الرسالة أي: لا لنا ولا علينا خوفا من التكلف واستجلاب الأحوال مع الجماعة، (ففي هذا الفن) أي: النوع (من السماع خطر يزيد على خطر السماع المحرك للشهوة، فإن غاية ذلك معصية وغاية الخطأ ههنا كفر) وشتان [ ص: 535 ] بينهما (واعلم أن الفهم قد يختلف بأحوال المستمع فيغلب الوجد على مستمعين لبيت واحد) سمعاه من القوال، (وأحدهما مصيب في الفهم والآخر مخطئ أو كلاهما مصيبان وقد فهما معنيين مختلفين متضادين، ولكنه بالإضافة إلى اختلاف أحوالهما لا يتناقص كما حكي عن عتبة الغلام) هو عتبة بن أبان بن تغلب هكذا نقله أبو حاتم الرازي عن علي بن المديني، وهو من رجال الحلية (أنه سمع رجلا يقول:

سبحان جبار السماء إن المحب لفي عناء

فقال: صدقت، وسمعه آخر فقال: كذبت) كل واحد سمع منه حيث هو هكذا نقله القشيري في الرسالة، وقال أبو نعيم في الحلية، حدثنا جعفر، حدثنا إبراهيم قال: حدثني عبد الواحد ابن عون الخراز، حدثنا أبو حفص البصري قال: كان خليد جارا لعتبة قال: فسمع عتبة ذات ليلة وهو يقول:

سبحان جبار السماء إن المحب لفي عناء

فقال عتبة: صدقت والله فغشي عليه . اهـ .

(فقال بعض ذوي البصائر أصابا جميعا) في قولهما (وهو الحق) الذي لا محيد عنه، (فالتصديق كلام محب غير ممكن من المراد) أي: لم يتم تمكينه من وصوله إلى المراد، (بل مصدود) أي: ممنوع (ومتعب بالصد والهجر) ، وهو المراد من قوله في عناء، (والتكذيب كلام مستأنس بالحب مستلذ لما يقاسيه بسبب فرط حبه غير متأثر به) ، فلا يحس بالعناء أصلا، فهذا معنى قوله: كذبت (أو كلام محب غير مصدود عن مراده في الحال ولا مستشعر بخطر الصد) والهجران (في المال، وذلك لاستيلاء الرجاء وحسن الظن) معا (على قلبه) فهما يتواردان عليه ويتجاذبان، (فباختلاف هذه الأحوال يختلف الفهم) ، وهذا معنى قول القشيري: كل واحد سمع منه حيث هو (وحكي عن أبي القاسم بن مروان وكان قد صحب أبا سعيد) أحمد بن عيسى (الخراز) البغدادي صحب ذا النون والسري وغيرهما، مات سنة سبع وسبعين ومائتين، (وترك حضور السماع سنين كثيرة فحضر في دعوة فأنشد بعضهم:

واقف في الماء عطشا ن ولكن ليس يسقى

فقام القوم وتواجدوا فلما سكتوا) أي: رجعوا عن وجدهم (سألهم عما وقع لهم من معنى البيت، فأشاروا إلى التعطش إلى الأحوال الشريفة) أي: التشوق لحصولها (والحرمان عنها) أي: عدم الوصول لها (مع حضور أسبابها) وذلك السبب وقوفه في الماء، (فلم يقنعه ذلك فقالوا له: فما عندك فيه؟ فقال: أن يكون في وسط الأحوال ويكرم بالكرامات ولا يعطى منها ذرة) فشبه الوقوف في الماء بكونه في وسط الأحوال وتمكينه فيها هو إكرامه بالكرامات ولكن لا يسقى من ذلك الماء، أراد به لا يعطى ذرة من تلك الأحوال .

(وهذا إشارة إلى إثبات حقيقة وراء الأحوال والكرامات، والأحوال سوابقها والكرامات تسنح من مباديها والحقيقة بعد لم يقع الوصول إليها) فالتعطش إنما هو إلى وجدان تلك الحقيقة، (ولا فرق بين المعنى الذي فهمه) أبو القاسم بن مروان، (وبين ما ذكروه إلا في تفاوت رتبة المتعطش إليه، فإن المحروم عن الأحوال الشريفة) أولا (يتعطش إليها) ويتمنى إدراكها، (فإن مكن منها تعطش إلى ما وراءها فليس بين المعنيين اختلاف في الفهم بل الاختلاف بين الرتبتين) ويدرك ذلك بأدنى فهم، (وكان أبو بكر) دلف بن جحدر (الشبلي) البغدادي (رحمه الله) صاحب الجنيد، وكان نسيجا وحده مات سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة عن سبع وثمانين سنة (كثيرا ما يتواجد على هذا البيت) ينشده بنفسه:

(ودادكم هجر وحبكم قلى ووصلكم صرم وسلمكم حرب)

(وهذا البيت يمكن سماعه على وجوه مختلفة بعضها باطل وأظهرها أن يفهم هذا في الخلق بل [ ص: 536 ] في الدنيا بأسرها، بل في كل ما سوى الله تعالى، فإن الدنيا مكارة) أي: كثيرة المكر والحيلة (خداعة) أي: كثيرة الخداع (قتالة لأربابها) بإيقاعها لهم في أسباب الهلاك (معادية لهم في الباطن ومظهرة صورة الود) في الظاهر، (فما امتلأت منها دار حبرة) أي: سرورا (إلا امتلأت عبرة) أي: بكاء، وإليه أشار الحريري بقوله:


دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غدا تبا لها من دار

وقال غيره: إن جلت أوجلت، أو حلت أوحلت، أو كست أوكست (كما ورد في الخبر) .

قال العراقي: رواه ابن المبارك عن عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير مرسلا بلفظ: ما امتلأت دار منها حبرة إلا امتلأت عبرة . اهـ .

(وكما قال) أبو منصور (الثعالبي) صاحب اليتيمة والمضاف والمنسوب وغيرهما (في وصف الدنيا) :


(تنح عن الدنيا فلا تخطبنها ولا تخطبن قتالة من تناكح)


(فليس يفي مرجوها بمخوفها ومكروهها أما تأملت راجح)


(لقد قال فيها الواصفون فأكثروا)



وفي نسخة: فأطنبوا

(وعندي لها وصف لعمري صالح سلاف)

بالضم من أسماء الخمر (قصاراها) أي: غايتها (ذعاف) أي: مر (ومركب شهي إذا استلذذته فهو جامح) يقال: جمح عن الطريق إذا عدل ومر جامحا أي: على رأسه، (وشخص جميل يونق) أي: يزين (الناس حسنه ، ولكن له أسرار سوء قبائح) أي: قبيحة لو ظهرت .

(والمعنى الثاني: أنه ينزله على نفسه في حق الله تعالى فإنه إذا تفكر فمعرفته جهل) روى أبو الشيخ في العظيمة من حديث ابن عباس: تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله. ومن حديث أبي ذر: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا.

وروى الطبراني في الأوسط وابن عدي والبيهقي من حديث ابن عمر: تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله.

وروى أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عباس: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله، (إذ ما قدروا الله حق قدره) بنص الآية .

وروى أبو الشيخ من حديث أبي ذر: تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنكم ما تقدرون قدره (وطاعته رياء إذ لا يتقي الله حق تقاته) ولأجل ذلك قال الله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا (وحبه معلوم إذ لا يدع شهوة من شهواته في حبه) ، فكيف يكون الحب خالصا، (ومن أراد الله به خيرا وبصره بعيوب نفسه) وشغله عن عيوب غيره (فسيرى مصداق هذا البيت في نفسه، وإن كان على الرتبة) كاملها (بالإضافة إلى الغافلين، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم-: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) رواه مسلم، وقد تقدم ولم يرد به أنه عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه بل معناه أني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك، وإنما أنت المحيط بها وحدك، فإذا لا يحيط مخلوق من ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة، وأما اتساع المعرفة فإنما يكون في معرفة أسمائه وصفاته .

(وقال) -صلى الله عليه وسلم-: (إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة) تقدم في الباب الثاني من الأركان، (وإنما كان استغفاره من أحوال) شريفة (هي درجات بعد بالإضافة إلى ما بعدها) من الأحوال، (وإن كان قربا بالإضافة إلى ما قبلها فلا قرب إلا ويبقى وراءه قرب) لا نهاية له، (إذ سبيل السلوك إلى الله تعالى غير متناه والوصول إلى أقصى درجات القرب محال .

والمعنى الثالث: أن ينظر) السالك (في مبادي أحواله فيرتضيها ثم ينظر في عواقبها فيزدريها) أي: يحتقرها (لاطلاعه على خفايا الغرور فيها فيرى ذلك من الله تعالى فيستمع البيت في حق الله تعالى شكاية من القضاء والقدر) والاستنكار على القسمة الأزلية، (وهذا كفر محض كما سبق بيانه) قريبا، (وما من بيت إلا ويمكن تنزيله على معان) شتى (وذلك بقدر غزارة علم المستمع وصفاء قلبه [ ص: 537 ]

الحالة الرابعة: سماع من جاور الأحوال والمقامات) فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب، وقيل: الأحوال ثمرات المقامات وسيأتي الكلام على كل ذلك في موضعه اللائق به، (فعزب) أي: غاب (عن فهم ما سوى الله تعالى حتى عزب عن) فهم (نفسه وأحوالها) وتلويناتها (ومعاملاتها وكان كالمدهوش الغائص في) بحر (عين الشهود) ، وفي بعض النسخ: في بحر الشهود، وفي أخرى: في عين بحر الشهود، وفي كل من هذه العبارات تفاوت خفي أشرف به في شرح صيغة القطب سيدي عبد السلام بن مشيش قدس سره عند قوله: وأغرقني في عين بحر الوحدة (الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف -عليه السلام- حتى دهشن) وفي نسخة: بهتن (وسقط إحساسهن) أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن زيد قال: أعطتهن ترنجا وعسلا فكن يحززن الترنج بالسكين ويأكلن بالعسل فلما قيل له: اخرج عليهن خرج فلما رأينه أعظمنه وتهيمن به حتى جعلن يحززن أيديهن بالسكين، وفيها الترنج ولا يعقلن لا يحسبن إلا أنهن حززن الترنج، قد ذهبت عقولهن مما رأين .

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق دريد بن مجاشع عن بعض أشياخه قال: قالت: زليخا للقيم: أدخله عليهن وألبسه ثيابا بيضا، فإن الجميل أحسن ما يكون في البياض، فأدخله عليهن وهن يحززن مما في أيديهن فلما رأينه حززن أيديهن وهن لا يشعرن من النظر إليه مقبلا ومدبرا، فلما خرج نظرن إلى أيديهن وجاء الوجع فجعلن يولولن .

(وعن مثل هذه الحالة تعبر) السادة (الصوفية بأنه فني عن نفسه) بأن استولى من أمر الحق سبحانه عليه فغلب كون الحق تعالى على كونه، وهذا هو الثناء المطلق، (ومهما فني عن نفسه فهو عن غيره أفنى، فكأنه فني عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود، وفني أيضا عن الشهود) .

اعلم أن الفناء المطلق على قسمين: فناء ظاهر، وفناء باطن، فالفناء الظاهر: هو أن يتجلى الحق تعالى له بطريق الأفعال ويسلب عن العبد اختياره وإرادته فلا يرى لنفسه ولا لغيره فعلا إلا بالحق ثم يأخذ في المعاملة مع الله تعالى بحسبه، وهذا هو الذي أشار إليه المصنف بقوله: فهو عن غيره أفنى، والفناء الباطن: أن يكاشف تارة بالصفات وتارة بمشاهدة آثار عظمة الذات ويستولي على باطنه أمر الحق حتى لا يبقى له هاجس ولا وسواس، وهذا هو الذي أشار إليه المصنف بقوله: وفني أيضا عن الشهود، وليس من ضرورة الفناء أن يغيب إحساسه كما قد يفهم من سياق المصنف السابق ولكن قد تتفق غيبة الإحساس لبعض الأشخاص، وليس ذلك من ضرورة الفناء على الإطلاق .




الخدمات العلمية