الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا كان هذا غير لائق بعلم المعاملة فلنرجع إلى الغرض فقد ذكرنا تفاوت الدرجات في فهم المسموعات .

المقام الثاني بعد الفهم والتنزيل : الوجد ، وللناس كلام طويل في حقيقة الوجد أعني الصوفية والحكماء الناظرين في وجه مناسبة السماع للأرواح فلننقل من أقوالهم ألفاظا ثم لنكشف عن الحقيقة فيه .

أما الصوفية فقد قال ذو النون المصري رحمه الله في السماع إنه وارد حق جاء يزعج القلوب إلى الحق فمن أصغى إليه بحق تحقق ومن أصغى إليه بنفس تزندق .

فكأنه عبر عن الوجد بانزعاج القلوب إلى الحق وهو الذي يجده عند ورود وارد السماع إذ سمي السماع وارد حق .

وقال أبو الحسين الدراج مخبرا عما وجده في السماع الوجد ، عبارة عما يوجد عند السماع وقال : جال بي السماع في ميادين البهاء فأوجدني وجود الحق عند العطاء فسقاني بكأس الصفاء فأدركت به منازل الرضاء وأخرجني إلى رياض التنزه والفضاء .

وقال الشبلي رحمه الله السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة فمن عرف الإشارة حل له استماع العبارة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية .

وقال بعضهم : السماع غذاء الأرواح لأهل المعرفة لأنه وصف يدق عن سائر الأعمال ويدرك برقة الطبع لرقته وبصفاء السر لصفائه ولطفه عند أهله .

وقال عمرو بن عثمان المكي لا يقع على كيفية الوجد عبارة لأنه سر الله عند عباده المؤمنين الموقنين وقال بعضهم : الوجد مكاشفات من الحق .

وقال أبو سعيد بن الأعرابي الوجد رفع الحجاب ومشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ومحادثة السر وإيناس المفقود وهو فناؤك من حيث أنت وقال أيضا : الوجد أول درجات الخصوص وهو ميراث التصديق بالغيب فلما ذاقوه وسطع في قلوبهم نوره زال عنهم كل شك وريب .

وقال أيضا : الذي يحجب عن الوجد رؤية آثار النفس والتعلق بالعلائق والأسباب لأن النفس محجوبة بأسبابها فإذا انقطعت الأسباب وخلص الذكر وصحا القلب ورق وصفا ونجحت الموعظة فيه وحل من المناجاة في محل قريب ، وخوطب وسمع الخطاب بأذن واعية وقلب شاهد وسر ظاهر فشاهد ما كان منه خاليا فذلك هو الوجد ; لأنه قد وجد ما كان معدوما عنده .

وقال أيضا : الوجد ما يكون عند ذكر مزعج أو خوف مقلق أو توبيخ على زلة أو محادثة بلطيفة أو إشارة إلى فائدة أو شوق إلى غائب أو أسف على فائت أو ندم على ماض أو استجلاب إلى حال أو داع إلى واجب أو مناجاة بسر وهو مقابلة الظاهر بالظاهر والباطن بالباطن والغيب بالغيب ، والسر بالسر واستخراج ما لك بما عليك مما سبق للسعي فيه فيكتب ذلك لك بعد كونه منك ، فيثبت لك قدم بلا قدم وذكر بلا ذكر إذ ، كان هو المبتدئ بالنعم والمتولي وإليه يرجع الأمر كله ، فهذا ظاهر علم الوجد ، وأقوال الصوفية من هذا الجنس في الوجد كثيرة .

وأما الحكماء فقال بعضهم : في القلب فضيلة شريفة لم تقدر قوة النطق على إخراجها باللفظ فأخرجتها النفس بالألحان فلما ظهرت سرت وطربت إليها فاستمعوا من النفس وناجوها ودعوا مناجاة الظواهر .

وقال بعضهم : نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأي واستجلاب العازب من الأفكار وحدة الكال من الأفهام والآراء حتى يثوب ما عزب وينهض ما عجز ويصفو ما كدر ويمرح في ، كل رأي ونية فيصيب ولا يخطئ ويأتي ولا يبطئ .

، وقال آخر : كما إن الفكر يطرق العلم إلى المعلوم فالسماع يطرق القلب إلى العالم الروحاني .

وقال بعضهم : وقد سئل عن سبب حركة الأطراف بالطبع على وزن الألحان والإيقاعات فقال : ذلك عشق عقلي ، والعاشق العقلي لا يحتاج إلى أن يناغي معشوقه بالمنطق الجرمي بل يناغيه ويناجيه بالتبسم واللحظ والحركة اللطيفة بالحاجب والجفن والإشارة ، وهذه نواطق أجمع إلا أنها روحانية ، وأما العاشق البهيمي ، فإنه يستعمل المنطق الجرمي ليعبر به عن ثمرة ظاهر شوقه الضعيف وعشقه الزائف .

وقال آخر : من حزن فليسمع الألحان .

فإن النفس إذا دخلها الحزن خمد نورها وإذا فرحت اشتعل نورها وظهر فرحها فيظهر الحنين بقدر قبول القابل وذلك بقدر صفائه ونقائه من الغش والدنس .

والأقاويل المقررة في السماع والوجد كثيرة ولا معنى للاستكثار من إيرادها فلنشتغل بتفهيم المعنى الذي الوجد عبارة عنه فنقول إنه عبارة عن حالة يثمرها السماع وهو وارد حق جديد عقيب السماع يجده المستمع من نفسه .

وتلك الحالة لا تخلو عن قسمين فإنها إما : أن ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هي من قبيل العلوم والتنبيهات ، وإما أن ترجع إلى تغيرات وأحوال ليست من العلوم بل هي كالشوق والخوف والحزن والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض وهذه الأحوال يهيجها السماع ويقويها فإن ضعف بحيث لم يؤثر في تحريك الظاهر أو تسكينه أو تغيير حاله حتى يتحرك على خلاف عادته أو يطرق أو يسكن عن النظر والنطق والحركة على خلاف عادته لم يسم وجدا ، وإن ظهر على الظاهر سمي وجدا ، إما ضعيفا وإما قويا بحسب ظهوره وتغييره للظاهر ، وتحريكه بحسب قوة وروده ، وحفظ الظاهر عن التغيير بحسب قوة الواجد وقدرته على ضبط جوارحه ، فقد يقوى الوجد في الباطن ولا يتغير الظاهر لقوة صاحبه ، وقد لا يظهر لضعف الوارد وقصوره عن التحريك وحل عقد التماسك. .

وإلى معنى الأول أشار أبو سعيد بن الأعرابي حيث قال في الوجد : إنه مشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ولا يبعد أن يكون السماع سببا لكشف ما لم يكن مكشوفا قبله فإن الكشف يحصل بأسباب منها التنبيه ، والسماع منبه ، ومنها تغير الأحوال ومشاهدتها وإدراكها فإن إدراكها نوع علم يفيد إيضاح أمور لم تكن معلومة قبل الورود ومنها صفاء القلب والسماع يؤثر في تصفية القلب والصفاء يسبب الكشف ومنها انبعاث نشاط القلب بقوة السماع فيقوى به على مشاهدة ما كان تقصر عنه قبل ذلك قوته كما يقوى البعير على حمل ما كان لا يقوى عليه قبله .

وعمل القلب الاستكشاف وملاحظة أسرار الملكوت كما أن عمل البعير حمل الأثقال فبواسطة هذه الأسباب يكون سببا للكشف ، بل القلب إذا صفا ربما يمثل له الحق في صورة مشاهدة أو في لفظ منظوم يقرع سمعه يعبر عنه بصوت الهاتف إذا كان في اليقظة وبالرؤيا إذا كان في المنام وذلك جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .

وعلم تحقيق ذلك خارج عن علم المعاملة وذلك كما روي عن محمد بن مسروق البغدادي أنه قال : خرجت ليلة في أيام جهالتي وأنا نشوان وكنت أغني هذا البيت .


بطور سيناء كرم ما مررت به إلا تعجبت ممن يشرب الماء

فسمعت قائلا يقول .


وفي جهنم ماء ما تجرعه     خلق فأبقى له في الجوف أمعاء

قال : فكان ذلك سبب توبتي واشتغالي بالعلم والعبادة .

، فانظر كيف أثر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثل له حقيقة الحق في صفة جهنم في لفظ مفهوم موزون وقرع ذلك سمعه الظاهر .

وروي عن مسلم العباداني أنه قال : قدم علينا صالح المري وعتبة الغلام وعبد الواحد بن زيد ومسلم الأسواري فنزلوا على الساحل قال فهيأت لهم ذات ليلة طعاما فدعوتهم إليه فجاءوا ، فلما وضعت الطعام بين أيديهم إذا بقائل يقول رافعا صوته هذا البيت .


وتلهيك عن دار الخلود مطاعم     ولذة نفس غيها غير نافع

قال فصاح عتبة الغلام صيحة وخر مغشيا عليه وبكى القوم فرفعت الطعام وما ذاقوا والله منه لقمة وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب فيشاهد أيضا بالبصر صورة الخضر عليه السلام فإنه يتمثل لأرباب القلوب بصور مختلفة .

وفي مثل هذه الحالة تتمثل الملائكة للأنبياء عليهم السلام إما على حقيقة صورتها ، وإما على مثال يحاكي صورتها بعض المحاكاة .

وقد رأى ، رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام مرتين في صورته وأخبر عنه بأنه سد الأفق .

وهو المراد بقوله تعالى : علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى إلى آخر هذه الآيات .

وفي مثل هذه الأحوال من الصفاء يقع الإطلاع على ضمائر القلوب وقد يعبر عن ذلك الإطلاع بالتفرس .

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله .

وقد حكي أن رجلا من المجوس كان يدور على المسلمين ويقول ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فكان يذكر له تفسيره فلا يقنعه ذلك حتى انتهى إلى بعض المشايخ من الصوفية .

فسأله ، فقال له معناه أن تقطع الزنار الذي على وسطك تحت ثوبك .

فقال : صدقت هذا معناه ، وأسلم وقال : الآن عرفت أنك مؤمن وأن ، إيمانك حق .

وكما حكي عن إبراهيم الخواص قال : كنت ببغداد في جماعة من الفقراء في الجامع فأقبل شاب طيب الرائحة حسن الوجه فقلت ، لأصحابي : يقع لي أنه يهودي فكلهم كرهوا ذلك فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم وقال : أي شيء قال الشيخ في فاحتشموه فألح عليهم فقالوا له قال: إنك يهودي ، قال : فجاءني وأكب على يدي وقبل رأسي وأسلم وقال : نجد في كتبنا أن الصديق لا تخطئ فراسته ، فقلت امتحن المسلمين فتأملتهم فقلت : إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة لأنهم يقولون حديثه سبحانه ويقرءون كلامه فلبست عليكم فلما اطلع على الشيخ وتفرس في علمت أنه صديق قال : وصار الشاب من كبار الصوفية .

وإلى مثل هذا الكشف الإشارة بقوله عليه السلام : لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء .

وإنما تحوم الشياطين على القلوب إذا كانت مشحونة بالصفات المذمومة فإنها مرعى الشيطان وجنده .

ومن خلص قلبه من تلك الصفات وصفاه لم يطف الشيطان حول قلبه .

وإليه الإشارة بقوله تعالى : إلا عبادك منهم المخلصين وبقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان والسماع سبب لصفاء القلب وهو شبكة للحق بواسطة الصفاء .

وعلى هذا يدل ما روي أن ذا النون المصري رحمه الله دخل بغداد فاجتمع إليه قوم من الصوفية ومعهم قوال فاستأذنوه في أن يقول لهم شيئا .

فأذن لهم في ذلك فأنشأ يقول:


صغير هواك عذبني     فكيف به إذا احتنكا

وأنت جمعت في قلبي هوى قد كان مشتركا أما ترثي لمكتئب إذا ضحك الخلي بكى فقام ذو النون وسقط على وجهه ثم قام رجل آخر فقال ذو النون : الذي يراك حين تقوم .

فجلس ذلك الرجل وكان ذلك اطلاعا من ذي النون على قلبه .

أنه متكلف متواجد ، فعرفه أن الذي يراه حين يقوم هو الخصم في قيامه لغير الله تعالى ، ولو كان الرجل صادقا لما جلس .

التالي السابق


(وإن كان هذا غير لائق بعلم المعاملة فلنرجع إلى الغرض فقد ذكرنا تفاوت الدرجات في فهم المسموعات) فنقول:

(المقام الثاني بعد الفهم والتنزيل: الوجد، وللناس كلام طويل في حقيقة الوجد أعني الصوفية والحكماء الناظرين في وجه مناسبة السماع للأرواح فلننقل من أقوالهم ألفاظا) رويت عنهم ونسبت إليهم (ثم لنكشف) الغطاء (عن) وجه (الحقيقة فيه، أما الصوفية فقد قال ذو النون المصري -رحمه الله تعالى- في السماع) لما سئل عنه (إنه وارد حق) أي: وارد ورد من الحق تعالى، وهو وارد قولا لا يشوبه الباطل (جاء يزعج القلوب) أي: يحركها (إلى الخلق) تعالى (فمن أصغى إليه بنفس) وطبع تزندق، هكذا نقله القشيري في الرسالة (فكأنه عبر عن الوجود بانزعاج القلوب إلى الحق) تعالى (وهو الذي يجده عند ورود السماع إذ سمي السماع وارد حق، وقال أبو الحسين الدراج) بن الحسين الرازي نزيل بغداد، تقدم ذكره قريبا (مخبرا عما وجده في السماع، والوجد عبارة عما يوجد عند السماع) ، وهذه جملة معترضة (وقال: جال بي السماع) أي: اضطرب ودار (في ميادين البهاء) أي: الحال والهيبة أو المراد عظمة الله -عز وجل- (فأوجدني وجود الحق عند العطاء فسقاني) ، وفي نسخة فأسقاني (بكأس الصفا فأدركت به منازل الرضا وأخرجني إلى رياض النزهة والعناء) وفي بعض النسخ: المتنزه من النزهة، وفي أخرى: الزهد، وفي أخرى: الصفاء بدل العناء .

(وقال) أبو بكر (الثعلبي) -رحمه الله تعالى- لما سئل عن (السماع) فقال: (ظاهره فتنة) لما فيه من غناء بأصوات حسنة، وربما كان آلات (وباطنه عبرة) للسامع بما يفهمه مما سمعه مما يدل على المحبة والشوق والقرب والبعد ونحو ذلك، (فمن عرف الإشارة من الكلام حل له استماع العبرة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية) لعدم معرفته الإشارة، نقله القشيري في الرسالة، (وقال بعضهم: السماع غذاء الأرواح لأهل المعرفة) ولفظ الرسالة وقيل: السماع [ ص: 541 ] لطف غذاء الأرواح لأهل المعرفة أي: أرواحهم تتغذى وتعيش بالمعاني اللطيفة التي تفهم عن السماع، ويقوى لها جدها وطلبها ويدوم أنسها بمحبوبها ويظهر عليها طربها (لأنه وصف يدق عن سائر الأعمال ويدرك برقة الطبع لرقته) لمن كان سماعه من طبع (وبصفاء السر) الذي في القلب (لصفائه ولطفه عند أهله) ، وهم الذين سماعهم بحق عن حق (وقال عمرو بن عثمان المكي) أبو عبد الله شيخ القوم وإمام الطائفة في الأصول والطريقة صحب أبا سعيد الخراز وغيره ومات ببغداد سنة 271. (لا يقع على كيفية الوجد عبارة) يعبر بها عنه (لأنه سر الله تعالى عند عباده المؤمنين الموقنين) ولفظ الرسالة في ترجمة عمرو بن عثمان المذكور وقال: لا يقع على الوجد عبارة; لأنه سر الله عند المؤمنين . اهـ. أي: يعسر عليهم التعبير عنه، وإن كان محسوسا لهم وإذا عسرت العبارات عن تمييز هذه المحسوسات فعسرها عن موارد القلوب، ومما يفتح به الحق من أحوال القلوب أولى، وإنما يفسرها من من الله تعالى عليه بها بالإشارات ويقربها بالأمثال من الأمور المعلومة .

(وقال بعضهم: الوجد من مكاشفات الحق) للعبد توجب استغراقه فيه، وفي الرسالة سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول وقد سئل عن السماع فقال: مكاشفة الأسرار إلى مشاهدة المحبوب. (وقال أبو سعيد) أحمد بن زياد البصري (ابن الأعرابي) صاحب الجنيد وعمرو بن عثمان المكي وأبا الحسين النوري وغيرهم جاور الحرم ومات به سنة ثلاثمائة وإحدى وأربعين .

(الوجد رفع الحجاب) من البين (ومشاهدته الرقيب) بلا كيف وأين (وحضور الفهم) في معاني ما يسمع (وملاحظة الغيب) مما يرد عليه من الواردات السرية (ومحادثة السر) بلسان السر (وإيناس المفقود وهو فناؤك أنت من حيث أنت) أي: فناؤك عن نفسك من حيث هي، وبما لها من الحظوظ البشرية، وهذا القول يشير إلى أن الوجد عين الوجود وفيه خلاف ستأتي الإشارة إليه .

(وقال أيضا: الوجد أول درجات الخصوص) هم الذين اختصهم الله تعالى بمعرفته، (وهو ميراث التصديق بالغيب) أي: ثمرته (فلما ذاقوه) بقواهم الروحانية (وسطع في قلوبهم نوره زال عنهم كل شك وريب، وقال أيضا: الذي يحجب عن الوجود) أي: عن حصوله في السالك عند السماع (رؤية آثار النفس) والتطلع إلى الأحوال (والتعلق بالعلائق والأسباب) مع الالتفات إليها؛ (لأن النفس محجوبة بأسبابها فإذا انقطعت الأسباب) بترك الالتفات إليها وعدم التعلق بها (وخلص الذكر) عن الشوائب (وصحا القلب) عن الغفلة (ورق) برقة السر (وصفا) عن الكدر (نجحت الموعظة فيه) أي: أثرت ونفعت (وحل من المناجاة) السرية (في محل غريب، وخوطب) وكوشف (وسمع الخطاب بأذن واعية) أي: حافظة (وقلب شاهد) لما يكاشف به (وسر ظاهر يشاهد ما كان منه غائبا فذلك هو الوجد; لأنه قد وجد معدوما عنده) مفقود الدية .

(وقال أيضا: الوجد ما يكون عند ذكر مزعج) أي: محرك إلى الحق تعالى (أو خوف مقلق) من أليم حجابه (أو توبيخ على زلة) صارت منه (أو محادثة بلطيفة) من لطائفه (أو إشارة إلى فائدة) لاحت له (أو شوق باعث إلى غائب) اشتاق إليه (أو أسف) أي: حزن (على فائت) من الأحوال الشريفة (أو ندم على ماض) من عمره في غير معرفة (أو استجلاب إلى حال) يرجو التمكن فيه (أو داع إلى واجب أوجبه) الله تعالى عليه (أو مناجاة بسر) فصاحب الوجد يتأمل في سماعه عند عروض هذه الأحوال ما يرد عليه منها (وهو مقابلة الظاهر بالظاهر والباطن بالباطن والغيب بالغيب، والسر بالسر واستخراج ما لك بما عليك مما سبق لك لتسعى فيه فكتب ذلك لك بعد كونه منك، فيثبت لك قدم بلا قدم وذكر بلا ذكر، وإن كان هو المسدي بالنعم والمتولي) للأمور كلها (وإليه [ ص: 542 ] يرجع الأمر كله، فهذا ظاهر علم الوجد، وأقوال الصوفية من هذا الجنس في الوجد كثيرة) فمن ذلك قول الجنيد: السماع فتنة لمن طلبه، ترويح لمن صادفه، وقال أبو يعقوب الهرجوري: هو حال يبدي الرجوع إلى الأسرار من حيث الاحتراق .

وقال أبو علي الدقاق: السماع طبع إلا عن شرع، وحزن إلا عن حرق، وفتنة إلا عن عبرة، وقال بعضهم: السماع نداء والوجد قصد، وقال الأستاذ أبو سهل الصعلوكي: المستمع بين استتار وتجل، فالاستتار يوجب التلهب والتجلي يورث الترويح، والاستتار تتولد منه حركات المريدين، وهو محل الضعف والعجز، والتجلي يتولد منه سكون الواصلين وهو محل الاستكانة والتمكين، وكذلك محل الحضرة ليس فيها إلا الذبول تحت مورد الهيئة، وقال سهل التستري: السماع علم استأثر الله به لا يعلمه إلا هو، كل ذلك نقله القشيري في الرسالة .

(وأما الحكماء فقال بعضهم: في القلب فضيلة شريفة تقدر) وفي نسخة: لم تقدر (على قوة النطق إخراجها باللفظ فأخرجتها النفس بالألحان فلما ظهرت) تلك الفضيلة (سرت وطربت إليها فاستمعوا من النفس وناجوها ودعوا مناجاة الظواهر) أي: تركوها (وقال بعضهم: نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأي واستجلاب العازب من الأفكار) وفي نسخة: الفكر (وحدة الكال) بتشديد اللام (عن الأفهام والآراء حتى يثور) أي: يتحرك، وفي نسخة: يتوب أي: يرجع (ما عزب) أي: غاب (وينهض) أي: يقوم (ما عجز) ويحتد ما كل (ويصفو ما كدر، ويخرج من كل رأي ونية فيغيب ولا يخطئ ويأتي ولا يبطئ، وقال آخر: كما أن الفكر يطرق العلم إلى المعلوم فالسماع يطرق القلب إلى العالم الروحاني، وقال بعضهم: وقد سئل عن حركة سبب الإطراق بالطبع على وزن الألحان والإيقاعات فقال: ذلك عشق عقلي من العاشق العقلي، والعاشق العقلي لا يحتاج إلى أن يناغي معقوله) أي: يسارره (بالنطق الجرمي بل يناغيه ويناجيه بالتبسم واللحظ والحركة اللطيفة بالحاجب والجفن والإشارة، وهذه نواطق أجمع إلا إنها روحانية، وأما العاشق البهيمي، فإنه يستعمل الجرمي ليعبر به عن ثمرة ظاهر شوقه الضعيف وعشقه الزائف) المهرج. وأوضحه صاحب العوارف فقال: ووجه آخر إنما تستلذ الروح النغمات; لأن النغمات بها نطق النفس مع الروح بالإيماء الخفي إشارة ورمزا بين المتعاشقين وبين النفوس والأرواح تعاشق أصلي ينزع ذلك إلى أنوثة النفس وذكورة الروح والميل. والتعاشق بين الذكر والأنثى بالطبيعة واقع، قال الله تعالى: وجعل منها زوجها ليسكن إليها وفي قوله منها إشعار بتلازم وتلاصق موجب للائتلاف والتعاشق، والنغمات تستلذها الروح; لأنها مناغاة بين المتعاشقين، وكما أن في عالم الحكمة كونت حواء من آدم كذلك في عالم القدرة كونت النفس من الروح، فهذا التآلف من هذا الأصل، وذلك أن النفس روح حيواني تجنس بالقلب من الروح الروحاني، وتجنسها بأن امتازت من أرواح جنس الحيوان فشرف القرب من الروح الروحاني فصار نفسا، فإذا تكون النفس من الروح الروحاني في عالم القدرة لتكون حواء من آدم في عالم الحكمة، فهذا التآلف والتعاشق ونسبة الذكورة والأنوثة من ههنا ظهر، وبهذا الطريق استطاب الروح النغمات; لأنها مراسلات بين المتعاشقين ومكالمة بينهما. وقد قال القائل:


تكلم منا في الوجوه عيوننا ونحن سكوت والهوى يتكلم

انتهى .

وقد سبق سياق ذلك في أول الكتاب مبسوطا، (وقال آخرون: من حزن فليسمع الألحان) ومنه قول بعضهم: من ابتلي بالأحزان فعليه بسماع الألحان، (فإن النفس إذا دخلها الحزن خمد نورها) وعزب سرورها، (وإذا فرحت اشتعل نورها وظهر فرحها فيظهر الحزن بقدر صفائه ونظافته) ونقائه (من الغش والدنس) المعنوي، (والأقاويل المقررة في السماع والوجد كثيرة ولا معنى للاستكثار من إيرادها) إذ ما ذكر فيه مقنع للمسترشد (فلنشتغل بفهم المعنى الذي الوجد عبارة عنه فنقول إنه) أي: الوجد (عبارة عن حالة يثمرها [ ص: 543 ] السماع وهو وارد حق جديد عقيب السماع) أي: عنده (يجده المستمع من نفسه) وهو يشعر بسابقة فقد فمن لم يفقد لم يجد، وإن كان الفقد لمزاحمة وجود العبد بوجود صفاته وبقاياه .

(وتلك الحالة لا تخلو من قسمين: فإما أن ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هي من قبيل العلوم والتشبيهات، وإما أن ترجع إلى تعبيرات وأحوال ليست من هذا) القبيل، (بل هي كالشوق والحزن والخوف والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض) ، وهذه المواجيد ثمرات للأعمال والواردات (وهذه الأحوال يهيجها السماع ويقويها فإن ضعف بحيث لم يؤثر في تحريك الظاهر أو تسكينه أو تغير حاله حتى يتحرك على خلاف عادته أو يطرق) برأسه (أو يسكن عن النظر والنطق والحركة على خلاف عادته لم يسم وجدا، وإن ظهر على الظاهر سمي وجدا، إما ضعيفا وإما قويا بحسب ظهوره وتغيره للظاهر، وتحريكه بحسب قوة وروده، وحفظ الظاهر عن التغيير بحسب قوة الواجد وقدرته على ضبط جوارحه، فقد يقوى الوجد في الباطن ولا يتغير الظاهر لقوة صاحبه، وقد لا يظهر لضعف الوارد وقصوره عن التحريك وحل عقد التماسك .

وإلى المعنى الأول أشار أبو سعيد بن الأعرابي) فيما تقدم من سياق كلامه (حيث قال في الوجد: إنه مشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ولا يبعد أن يكون السماع سببا لكشف ما لم يكن مكشوفا قبله) ، ولا بدع في ذلك (فإن الكشف يحصل بأسباب منها التنبيه، والسماع منبه لأمور كان قبله في غفلة عنها، ومنها تغير الأحوال) وتلونها (ومشاهدتها وإدراكها) في نفسه، (فإن إدراكها) أي: الأحوال (نوع علم يفيد إيضاح أمور لم تكن معلومة قبل الورود) والسماع سبب لإدراكها، (ومنها صفاء القلب والسماع يؤثر في تصفية القلب) عن الكدورات (والصفاء سبب الكشف ومنها انبعاث نشاط القلب بقوة السماع فيقوى به على مشاهدة ما كان تقصر عنه قبل ذلك قوته كما يقوى البعير) عند سماع الحداء (على حمل ما كان لا يقوى عليه قبله) ، وهذا مشاهد، (وعمل القلب الاستكشاف وملاحظة أسرار الملكوت) بعين السر، (كما أن عمل البعير حمل الأثقال) ، ولكل عمل رجال (فبواسطة هذه الأسباب يكون) السماع (سببا للكشف، بل القلب إذا صفا) عن غش الكدورات (ربما يمثل له الحق في صورة مشاهدة) يطالعها بعين الباطن، (وفي لفظ منظوم يقرع سمعه يعبر عنه بصوت الهاتف إذا كان في اليقظة و) يعبر عنه أيضا (بالرؤيا إذا كان في المنام وذلك جزء من) ستة وأربعين جزءا من (النبوة) كما ورد ذلك في الخبر .

(وعلم تحقيق ذلك خارج عن علم المعاملة) ، وقد تقدمت الإشارة إليه في مواضع من هذا الكتاب (كما روي عن) أبي عبد الله (محمد بن مسروق البغدادي) -رحمه الله تعالى- (أنه قال: خرجت ليلة في أيام جاهليتي) أي: عنفوان شبابي (وأنا نشوان) أي: سكران (وكنت أغني بهذا البيت) أي: أردده لنفسي:

(بطرزنا ماء كرم ما مررت به إلا عجبت ممن يشرب الماء)

كذا في النسخ، وكأنه اسم بقعة، وفي بعض النسخ، بطور سيناء بدله (فسمعت قائلا) وهو الهاتف يقول:


(وفي جهنم ماء ما تجرعه حلق وأبقى له الجوف أمعاء)

[ ص: 544 ] (قال: فكان ذلك سبب توبتي) عما كنت عليه (واشتغالي بالعلم و) إقبالي على (العبادة، فانظر كيف أثر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثل ذلك له حقيقة الحق من صفة جهنم في لفظ موزون قرع ذلك سمعه الظاهر) .

وقال صاحب الإمتاع: عمل سماع فحضر أخي وحصل له فيه حال فأصبح واهتم للسفر، وسافر وحج من غير أب بعد أن أقام بها قريبا من عشرين سنة ولم يحج، فكان السماع سببا لسفره من أرنو، وليس ذلك من مجرد الشعر بل للألحان فيه تأثير وكم سمع الغناء فحصل له ما هيمه من المعرفة .

(وروي عن مسلم العباداني) رحمه الله (قال: قدم علينا مرة صالح) بن بشير (المري) تقدمت ترجمته في كتاب العلم (وعتبة) بن أبان (الغلام) تقدم ذكره قريبا، (وعبد الواحد بن زيد) البصري تقدمت ترجمته في كتاب العلم، (ومسلم الأسواري) بفتح الهمزة (ونزلوا على الساحل) أي: ساحل عبادان بقصد المرابطة (فهيأت لهم ذات يوم طعاما فدعوتهم إليه فجاءوا، فلما وضعت الطعام بين أيديهم إذا قائل يقول) من بعض أولئك المطوعة (رافعا صوته) :


(وتلهيك عن دار الخلود مطاعم ولذة نفس فيها غير نافع)

(قال فصاح عتبة الغلام صيحة خر مغشيا عليه وبكى القوم) لما سمعوا (فرفعت الطعام من بين أيديهم وما ذاقوا والله لقمة منه) أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عتبة الغلام، فقال: حدثني أبي حدثنا أحمد بن محمد بن عثمان، حدثنا أبو بكر بن عبيد قال: حدثت عن محمد قال: حدثني روح بن سلمة الوراق حدثني مسلم العباداني قال: قدم علينا مرة صالح المري وعتبة الغلام، فذكره، وقال: حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا جعدة بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن الجنيد، حدثنا سجف بن منظور قال: صنع عبد الواحد بن زيد طعاما وجمع عليه نفرا من إخوانه، وكان فيهم عتبة الغلام قال: فأكل القوم غير عتبة فإنه كان قائما على رءوسهم يحدثهم، قال: فالتفت بعضهم إلى عتبة فنظر إلى عينيه والدموع تنحدر منهما فسكت، وأقبل على الطعام فلما فرغ القوم من طعامهم تفرقوا وأخبر الرجل عبد الواحد بما رأى من عتبة، فقال له عبد الواحد: يا بني لم بكيت والقوم يطعمون؟ قال: ذكرت موائد أهل الجنة والخدم قيام على رءوسهم، فشهق عبد الواحد شهقة خر مغشيا عليه، قال سجف: وحدثني حصين بن القاسم قال: فما رأيت عبد الواحد بعد ذلك اليوم دعا إنسانا إلى منزله ولا أكل طعاما إلا دون شبعه والا فتر ضاحكا حتى مضى لوجهه، قال: وأما عتبة فإنه جعل لله على نفسه أن لا يأكل إلا أقل من شبعه، ولا يشرب إلا أقل من ريه، ولا ينام بالليل والنهار إلا أقل من نبهته .

(وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب فيشاهد أيضا بالبصر صورة الخضر -عليه السلام- فإنه يتمثل لأرباب القلوب بصور مختلفة) في أماكن شتى، (وفي مثل هذه الحالات تتمثل الملائكة للأنبياء) عليهم السلام (إما على حقيقة صورتها، وإما على مثال يحاكي صورتها بعض المحاكاة، ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل) -عليه السلام- (مرتين في صورته) الأصلية (فأخبر عنه بأنه سد الأفق) . وأخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشد علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. ورواه مسلم كذلك، وفي حديث جابر: بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه، (وهذا المراد بقوله: علمه شديد القوى ) المراد به جبريل -عليه السلام- وهذا يؤيد رواية من قال: يعلمني بدل فيكلمني ( ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى إلى آخر الآيات) من سورة النجم .

(وقد يعبر عن ذلك الاطلاع بالتفرس، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى) .

قال العراقي: رواه الترمذي من حديث أبي سعيد وقال: حديث غريب . اهـ .

قلت: ورواه في التفسير من جامعه، وكذا أبو علي في سنده والعسكري في الأمثال، كلهم من طريق عمرو بن قيس الملائي عن عطية العوفي عن أبي سعيد به مرفوعا ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين وقد روي عن بعض أهل العلم في تفسير "للمتوسمين" [ ص: 545 ] قال: للمتطرفين، وكذا أخرجه الهروي والطبراني وأبو نعيم في الطب النبوي، وابن عدي وغيرهم كالحكيم الترمذي وسمويه من طريق راشد بن سعد عن أبي أمامة مرفوعا .

ويروى عن ابن عمر وأبي هريرة أيضا، بل هو عند الطبراني وأبي نعيم والعسكري من طريق وهب بن منبه عن طاووس عن ثوبان مرفوعا بلفظ: احذروا دعوة المسلم وفراسته فإنه ينظر بنور الله، وينظر بتوفيق الله. ولكن قال الخطيب عقب أبي سعيد: المحفوظ ما رواه سفيان عن عمرو بن قيس قال: كان يقال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، وعند العسكري من حديث ابن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عمير بن هانئ عن أبي الدرداء من قوله: اتقوا فراسة العلماء فإنهم ينظرون بنور الله، إنه شيء يقذفه الله في قلوبهم وعلى ألسنتهم. وكلها ضعيفة، وفي بعضها ما هو متماسك لا يليق مع وجود الحكم على الحديث بالوضع لاسيما وللبزار والطبراني وغيرهما كأبي نعيم في الطب بسند حسن عن أنس مرفوعا: إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم.

(وقد حكي أن واحدا من المجوس كان يدور على المسلمين وكان يقول) لهم: (ما معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- اتقوا فراسة المؤمن) الحديث، (فكان) كل من يسأله (يذكر له تفسيره ولا يقنعه ذلك حتى انتهى إلى بعض المشايخ من الصوفية فسأله، فقال معناه أن تقطع الزنار) وهو خيط الكفر (الذي) هو مشدود (على وسطك تحت ثوبك، فقال: صدقت هذا معناه، وأسلم) في الحال، (وقال: الآن عرفت أنك مؤمن، وإن إيمانك حق، وكما حكي عن إبراهيم الخواص) ترجمه القشيري في الرسالة (قال: كنت ببغداد في جماعة من الفقراء في الجامع فأقبل شاب طيب الريح حسن الوجه، قلت لأصحابي: يقع لي) في نفسي (أنه يهودي فكلهم كرهوا ذلك) أي: نظروا ظاهر حاله، (فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم) وسألهم (وقال: أي شيء قال الشيخ في) أي: في حقي، (فاحتشموا) من الجواب (فألح عليهم فقالوا: قال: إنك يهودي، قال: فجاءني فأكب على يدي) يقبلهما (وقبل رأسي وأسلم) على يدي (وقال: نجد في كتبنا) يعني السماوية (أن الصديق لا تخطئ فراسته، فقلت) في نفسي (أمتحن المسلمين) وأختبرهم (فتأملتهم فقلت: إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة لأنهم يقولون حديثه سبحانه) ويقرءون كلامه، (فلبست عليكم) وفي نسخة: عليهم، (فلما اطلع الشيخ علي وتفرس في علمت أنه صديق قال: وصار الشاب) المذكور (من كبار الصوفية) أي: فتح الله عليه ببركة صدقه وخدمته لهم فلحق بهم، وقد روي في صدق الفراسة لأفراد من رجال هذه الأمة ما هو مذكور في تراجمهم في مواضعه .

(وإلى مثل هذا الكشف الإشارة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء) ، تقدم الكلام عليه في كتاب الصوم، (وإنما تحوم الشياطين على القلوب إذا كانت مشحونة بالصفات المذمومة) القبيحة، (فإنها مرعى الشيطان) ومأواه، (ومن خلص قلبه من تلك الصفات وصفاه) عن الكدورات (لم يطف الشيطان حول قلبه) ولم يحم أصلا، (وإليه الإشارة بقوله تعالى: إلا عبادك منهم المخلصين وبقوله تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) أي: تسليط واستيلاء، (والسماع سبب لصفاء القلب وهو شبكة للحق بواسطة الصفاء، وعلى هذا يدل ما روي أن ذا النون المصري -رحمه الله- دخل بغداد فاجتمع إليه قوم من الصوفية ومعهم قوال) ، وينشد الشعر (فاستأذنوه) أي: ذا النون (أن يقول) القوال بين يديه (شيئا فأذن لهم في ذلك فأنشأ يقول:


صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتنكا)

أي: استحكم واستولى وقهر [ ص: 546 ] (وأنت جمعت من قلبي هوى قد كان مشتركا)

وبعد رضاك تقتلني وقتلي لا يحل لكا



(أما ترثي) أي: أما ترق (لمكتئب) أي: ذي حزن وكآبة (إذا ضحك الخلي) أي: الخالي من الهم (بكى) ، قال: (فقام ذو النون) وتواجد (وسقط على وجهه) مغشيا عليه من شدة وجده والدم يقطر من جبينه ولا يسقط على الأرض .

(ثم قال رجل آخر) من القوم يتواجد لم يبلغ حاله حال ذي النون (فقال ذو النون: الذي يراك حين تقوم، فجلس ذلك الرجل) ، أورده القشيري في الرسالة فقال: وحكى أحمد بن مقاتل العكي قال: لما دخل ذو النون المصري بغداد... فساقه إلخ، (وذلك اطلاع من ذي النون على قلبه أنه متكلف متواجد، فعرفه أن الذي يراه حين يقوم هو الخصم في قيامه لغير الله تعالى، ولو كان الرجل صادقا في وجده لما جلس) ، ولفظ القشيري في الرسالة بعد سياق القصة: سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق -رحمه الله تعالى- يقول في هذه الحكاية: كان ذو النون صاحب إشراف على ذلك الرجل حين نبهه أن ذلك ليس مقامه، وكان ذلك الرجل صاحب إنصاف حيث قبل ذلك منه فرجع وقعد . اهـ .

وقال صاحب العوارف: وأما وجه الإنكار في السماع فهو أن يرى جماعة من المريدين دخلوا في مبادئ الإرادة ونفوسهم ما تمرنت على صدق المجاهدة، حتى يحدث عندهم علم بظهور صفات النفس وأحوال القلب حتى تنضبط حركاتهم بقانون العلم، ويعلمون بما لهم وعليهم. وحكي أن ذا النون لما دخل بغداد دخل عليه جماعة ومعهم قوال، فاستأذنوه... فساق القصة، ثم قال: فطاب قلبه وقام وتواجد وسقط على وجهه والدم يقطر من جبينه ولا يقع على الأرض، ثم قام واحد منهم فنظر إليه ذو النون فقال: الذي يراك حين تقوم، فجلس الرجل، فكان جلوسه لموضع صدقه وعلمه أنه غير كامل الحال الصالح للقيام متواجدا، فيقوم أحدهم من غير بصيرة وعلم في قيامه، وذلك إذا سمع إيقاعا موزونا بسمع يؤدي ما سمعه إلى طبع موزون فيتحرك بالطبع الموزون وينسبل حجاب نفسه المنبسط بانبساط الطبع الموزون على وجه القلب ويستفزه النشاط المنبعث من الطبع فيقوم يرقص موزونا ممزوجا بتصنع محرم عند أهل الحق، ويحسب ذلك طيبة القلب وما رأى وجه القلب وطيبة بالله تعالى، ولعمري هو طيبة القلب، ولكن قلب ملوث بلوث النفس، ميال إلى الهوى موافق للرأي لا يهتدي إلى حسن النية في الحركات، ولا يعرف شروط صحة الإرادات، ولمثل هذا الراقص قيل: الرقص نقص; لأنه رقص مصدره الطبع غير مقترن بنية صالحة. انتهى .




الخدمات العلمية