الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الثالث : في معنى المعجزات

          اعلم أن تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة ، هو أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها ، وهي على ضربين : ضرب هو من نوع قدرة البشر ، فعجزوا عنه ، فتعجيزهم عنه فعل لله دل على صدق نبيه ، كصرفهم عن تمني الموت . وتعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن على رأي بعضهم ، ونحوه .

          وضرب هو خارج عن قدرته ، فلم يقدروا على الإتيان بمثله ، كإحياء الموتى ، وقلب العصا حية ، وإخراج ناقة من صخرة ، وكلام شجرة ، ونبع الماء من الأصابع ، وانشقاق القمر ، مما لا يمكن أن يفعله أحد إلا الله ، فكون ذلك على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل الله - تعالى - ، وتحديه من يكذبه أن يأتي بمثله تعجيز له .

          واعلم أن المعجزات التي ظهرت على يد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ودلائل نبوته ، وبراهين صدقه من هذين النوعين معا ، وهو أكثر الرسل معجزة ، وأبهرهم آية ، وأظهرهم برهانا ، كما سنبينه ، وهي في كثرتها لا يحيط بها ضبط ، فإن واحدا منها ، وهو القرآن لا يحصى عدد معجزاته بألف ، ولا ألفين ، ولا أكثر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تحدى بسورة منه فعجز عنها .

          قال أهل العلم : وأقصر السور إنا أعطيناك الكوثر [ الكوثر : 1 ] . فكل آية ، أو آيات منه بعددها ، وقدرها معجزة ، ثم فيها [ ص: 277 ] نفسها معجزات على ما سنفصله فيما انطوى عليه من المعجزات . ثم معجزاته - صلى الله عليه وسلم - على قسمين : قسم منها علم قطعا ، ونقل إلينا متواترا كالقرآن فلا مرية ، ولا خلاف بمجيء النبي به ، وظهوره من قبله ، واستدلاله بحجته ، وإن أنكر هذا معاند جاحد ، فهو كإنكاره وجود محمد - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا .

          وإنما جاء اعتراض الجاحدين في الحجة به ، فهو في نفسه ، وجميع ما تضمنه من معجز معلوم ضرورة .

          ووجه إعجازه معلوم ضرورة ، ونظرا ، كما سنشرحه .

          قال بعض أئمتنا : ويجري هذا المجرى على الجملة أنه قد جرى على يديه - صلى الله عليه وسلم - آيات ، وخوارق عادات إن لم يبلغ واحد منها معينا القطع فيبلغه جميعها ، فلا مرية في جريان معانيها على يديه ، ولا يختلف مؤمن ولا كافر أنه جرت على يديه عجائب ، وإنما خلاف المعاند في كونها من قبل الله .

          وقد قدمنا كونها من قبل الله ، وإن ذلك بمثابة قوله : صدقت .

          فقد علم وقوع مثل هذا أيضا من نبينا ضرورة لاتفاق معانيها ، كما يعلم ضرورة جود حاتم ، وشجاعة عنترة ، وحلم أحنف ، لاتفاق الأخبار الواردة عن كل واحد منهم على كرم هذا ، وشجاعة هذا ، وحلم هذا ، وإن كان كل خبر بنفسه لا يوجب العلم ، ولا يقطع بصحته .

          والقسم الثاني : ما لم يبلغ مبلغ الضرورة ، والقطع ، وهو على نوعين : نوع مشتهر منتشر ، رواه العدد ، وشاع الخبر به عند المحدثين ، والرواة ، ونقلة السير ، والأخبار ، كنبع الماء من بين الأصابع ، وتكثير الطعام .

          ونوع منه اختص به الواحد ، والاثنان ، ورواه العدد اليسير ، ولم يشتهر اشتهار غيره ، لكنه إذا جمع إلى مثله اتفقا في المعنى ، واجتمعا على الإتيان بالمعجز ، كما قدمناه .

          قال القاضي أبو الفضل : وأنا أقول صدعا بالحق : إن كثيرا من هذه الآيات المأثورة عنه - صلى الله عليه وسلم - معلومة بالقطع .

          أما انشقاق القمر فالقرآن نص بوقوعه ، وأخبر عن وجوده ، ولا يعدل عن ظاهر إلا بدليل ، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة ، ولا يوهن عزمنا خلاف أخرق منحل عرى الدين ، ولا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك على قلوب ضعفاء المؤمنين ، بل يرغم بهذا أنفه ، وننبذ بالعراء سخفه .

          وكذلك قصة نبع الماء ، وتكثير الطعام رواها الثقات ، والعدد الكثير عن الجماء الغفير ، عن العدد الكثير من الصحابة .

          ومنها ما رواه الكافة عن الكافة متصلا [ ص: 278 ] عمن حدث بها من جملة الصحابة ، وأخيارهم أن ذلك كان في موطن اجتماع الكثير منهم في يوم الخندق ، وفي غزوة بواط ، وعمرة الحديبية ، وغزوة تبوك ، وأمثالها من محافل المسلمين ، ومجمع العساكر ، ولم يؤثر عن أحد من الصحابة مخالفة للراوي فيما حكاه ، ولا إنكار لما ذكر عنهم أنهم رأوه كما رآه ، فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق ، إذ هم المنزهون عن السكوت على باطل ، والمداهنة في كذب ، وليس هناك رغبة ، ولا رهبة تمنعهم ، ولو كان ما سمعوه منكرا عندهم ، وغير معروف لديهم لأنكروه ، كما أنكر بعضهم على بعض أشياء رواها من السنن ، والسير ، وحروف القرآن . وخطأ بعضهم بعضا ، ووهمه في ذلك ، مما هو معلوم ، فهذا النوع كله يلحق بالقطعي من معجزاته لما بيناه .

          وأيضا فإن أمثال الأخبار التي لا أصل لها ، وبنيت على باطل ، لا بد بعد مرور الأزمان وتداول الناس ، وأهل البحث من انكشاف ضعفها ، وخمول ذكرها ، كما يشاهد في كثير من الأخبار الكاذبة ، والأراجيف الطارئة . وأعلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - هذه الواردة من طريق الآحاد لا تزداد مع مرور الزمان إلا ظهورا ، ومع تداول الفرق ، وكثرة طعن العدو ، وحرصه على توهينها ، وتضعيف أصلها ، واجتهاد الملحد على إطفاء نورها إلا قوة ، وقبولا ، وللطاعنين عليها إلا حسرة ، وغليلا .

          وكذلك إخباره عن الغيوب ، وإنباؤه بما يكون وكان معلوم من آياته على الجملة بالضرورة .

          وهذا حق لا غطاء عليه ، وقد قال به من أئمتنا القاضي ، والأستاذ أبو بكر ، وغيرهما ، رحمهم الله ، وما عندي أوجب قول القائل : إن هذه القصص المشهورة من باب خبر الواحد إلا قلة مطالعته للأخبار ، وروايتها ، وشغله بغير ذلك من المعارف ، وإلا فمن اعتنى بطرق النقل ، وطالع الأحاديث ، والسير لم يرتب في صحة هذه القصص المشهورة على الوجه الذي ذكرناه .

          ولا يبعد أن يحصل العلم بالتواتر عند واحد ، ولا يحصل عند آخر ، فإن أكثر الناس يعلمون بالخبر كون بغداد موجودة ، وأنها مدينة عظيمة ، ودار الإمامة ، والخلافة ، وآحاد من الناس لا يعلمون اسمها ، فضلا عن وصفها ، وهكذا يعلم الفقهاء من أصحاب مالك بالضرورة ، وتواتر النقل عنه أن مذهبه إيجاب قراءة أم القرآن في الصلاة للمنفرد ، والإمام ، وإجزاء النية في أول ليلة من رمضان عما سواه ، وأن الشافعي يرى تجديد النية كل ليلة ، والاقتصار في المسح على بعض الرأس ، وإن مذهبهما القصاص في القتل بالمحدد ، وغيره ، وإيجاب النية في الوضوء ، واشتراط الولي في النكاح [ ص: 279 ] وأن أبا حنيفة يخالفهما في هذه المسائل ، وغيرهم ممن لم يشتغل بمذاهبهم ، ولا روى أقوالهم لا يعرف هذا من مذاهبهم فضلا عمن سواه .

          وعند ذكرنا آحاد هذه المعجزات نزيد الكلام فيها بيانا إن شاء الله - تعالى - .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية