الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 216 ] 569 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجة التي كانت قبل حجته من التأمير فيها ، ومن قراءة براءة على الناس فيها ، ومن كان أميره فيها ، ومن كان المبلغ عنه فيها من أبي بكر ومن علي

3584 - أخبرنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا العباس بن محمد - يعني الدوري - ، قال : حدثنا أبو نوح قراد ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع ، عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ببراءة إلى مكة مع أبي بكر رضي الله عنه ، ثم تبعه بعلي ، فقال له : خذ الكتاب ، وامض إلى أهل مكة ، فلحقته فأخذت الكتاب منه ، فانصرف أبو بكر وهو كئيب ، فقال : يا رسول الله ، أنزل في شيء ؟ قال : لا ، إلا أني أمرت أن أبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي .

[ ص: 217 ] [ ص: 218 ]

3585 - وحدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي ، عن عباد - يعني ابن العوام - عن سفيان بن حسين ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر رضي الله عنه ، وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ، ثم أتبعه عليا ، فبينا أبو بكر في بعض الطريق ، إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء ، فخرج أبو بكر ، وظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا علي عليه السلام ، فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره على الموسم ، وأمر عليا أن ينادي بهؤلاء الكلمات ، فانطلقا ، فقام علي أيام التشريق فقال : ذمة الله [ ص: 219 ] عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بريئة من كل مشرك ، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، ولا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ، قال : فكان علي ينادي بها ، فإذا بح قام أبو هريرة ، فنادى بها .

3586 - حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا الوضاح - وهو أبو عوانة - ، قال : حدثنا أبو بلج ، قال : حدثنا عمرو بن ميمون ، قال : إني لجالس عند ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط ، فذكر قصة ، فقال فيها : وبعث - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبا بكر رضي الله عنه بسورة التوبة ، وبعث عليا عليه السلام خلفه ، فأخذها منه ، وقال : لا يذهب [ ص: 220 ] بها إلا رجل هو مني وأنا منه .

3587 - وحدثنا محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا محمد بن عمران الأخنسي ( ح ) ، وحدثنا فهد ، قال : حدثنا محمد بن سعيد ابن الأصبهاني ، قالا : [ ص: 221 ] حدثنا محمد بن فضيل ، قال : حدثنا سالم بن أبي حفصة ، عن جميع بن عمير التيمي ، قال : قال لي عبد الله بن عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ببراءة ، حتى إذا كانا من طريق مكة بكذا وكذا إذا هما براكب ، وإذا هو علي رضي الله عنه ، فقال : يا أبا بكر هات الكتاب الذي معك ، فقال : ما لي يا علي ؟ قال : والله ما علمت إلا خيرا . فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ما لي ؟ قال : خير ، ولكن أمرت ألا يبلغ عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي ، هكذا في حديث محمد بن علي ، وفي حديث فهد : أو رجل من أهل بيتي علي بن أبي طالب .

3588 - وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، قال : حدثنا حماد ، عن سماك بن حرب ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث براءة إلى أهل مكة مع أبي بكر ، ثم بعث عليا ، فقال : لا يبلغها إلا رجل من أهل بيتي .

[ ص: 222 ]

3589 - وحدثنا الحسين بن الحكم الحبري ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، ثم ذكر بإسناده مثله .

3590 - وحدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : قرأت على أبي قرة موسى بن طارق ، عن ابن جريج ، قال : حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر رضي الله عنه على الحج ، حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح ، ثم استوى ليكبر ، فسمع الرغوة خلف ظهره ، فوقف عن التكبير ، فقال : هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج ، فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي معه ، فإذا علي رضي الله عنه عليها ، فقال له أبو بكر : أمير أو رسول ؟ قال : لا ، بل رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج ، فقدمنا مكة ، فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر رضي الله عنه فخطب الناس ، فحدثهم عن مناسكهم ، حتى إذا فرغ ، قام علي رضي الله عنه ، فقرأ [ ص: 223 ] على الناس (براءة) حتى ختمها ، ثم خرجنا معه حتى إذا كان يوم عرفة ، قام أبو بكر رضي الله عنه ، فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم ، حتى إذا فرغ قام علي رضي الله عنه فقرأ على الناس (براءة) حتى ختمها ، ثم كان يوم النحر فأفضنا ، فلما رجع أبو بكر رضي الله عنه خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم ، فلما فرغ قام علي رضي الله عنه فقرأ على الناس (براءة) حتى ختمها ، فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر رضي الله عنه ، فخطب الناس ، فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون ، فعلمهم مناسكهم ، فلما فرغ قام علي ، فقرأ براءة على الناس حتى ختمها .

[ ص: 224 ] قال أبو جعفر : فقال قائل : فقد روي عن أبي هريرة ما قد دل أن النداء كان بهذه الأشياء التي فيما رويتم مضافة إلى علي كانت بأمر أبي بكر رضي الله عنه .

3591 - فذكر ما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا أبو اليمان ، قال : حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، قال : حدثني حميد بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .

[ ص: 225 ]

3592 - وحدثنا فهد ، قال : حدثنا عاصم بن علي ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن عقيل ، عن محمد بن شهاب الزهري ، قال : حدثني حميد بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .

قال هذا القائل : فقد دل حديث أبي هريرة هذا على أن التبليغ بهذه الأشياء إنما كان من أبي بكر لا من علي ، وهذا اضطراب في هذه الآثار شديد .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أنه ما في ذلك اضطراب ، كما ذكر ; لأن الإمرة في تلك الحجة إنما كانت لأبي [ ص: 226 ] بكر خاصة ، لا شريك له فيها ، وكانت الطاعة في الأمر والنهي الذي يكون فيها إلى أبي بكر لا إلى سواه ، فمن أجل ذلك بعث أبا هريرة في المؤذنين الذين كانوا معه ليمتثلوا ما يأمرهم به علي رضي الله عنه فيما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، وقد دل على ذلك .

3593 - ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، قال : أخبرنا شعبة ، عن المغيرة ، عن الشعبي ، عن المحرر بن أبي هريرة ، عن أبيه ، قال : كنت مع علي رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة ، فكنت أنادي حتى صحل صوتي ، فقيل : بأي شيء كنت تنادي ؟ قال : أمرنا أن ننادي : أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر كلمة كأنها عهد ، فأجله إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأشهر ، فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يحج بعد العام مشرك .

[ ص: 227 ] قال أبو جعفر : فدل ذلك على أن نداء أبي هريرة إنما كان بما يلقيه علي عليه ، وأن مصيره كان إلى علي كان بأمر أبي بكر ; لأن الأمر كان إليه ; إذ كان هو الأمير في تلك الحجة حتى رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفا منها .

وفيما بينا من ذلك علو المرتبة لأبي بكر رضي الله عنه في إمرته على المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لا يصلح أن يكون المبلغ له عنه إلا هو .

وفيه أيضا : علو مرتبة علي رضي الله عنه في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه بما اختصه به من التبليغ عنه ، وفي ذلك ما يجب على أهل العلم الوقوف على منزلة كل واحد منهما حتى يؤتوه ما جعله الله له ، ولا ينتقصونه منه شيئا ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية