الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق السادس والمائة بين قاعدة العروض تحمل على القنية حتى ينوي التجارة وقاعدة ما كان أصله منها للتجارة )

هاتان قاعدتان في المذهب مختلفتان ينبغي بيان الفرق بينهما والسر فيهما فوقع لمالك في المدونة إذا ابتاع عبدا للتجارة فكاتبه فعجز ، أو ارتجع من مفلس سلعة ، أو أخذ من غريمه عبدا في دينه ، أو دارا فأجرها سنين رجع جميع ذلك لحكم أصله من التجارة فإن كان للتجارة لا يبطل إلا بنية القنية ، والعبد المأخوذ ينزل منزلة أصله قال سند في شرح المدونة فلو ابتاع الدار بقصد الغلة ففي استئناف الحول بعد البيع لمالك روايتان ولو ابتاعها للتجارة والسكنى فلمالك أيضا قولان مراعاة لقصد التنمية بالغلة والتجارة ، أو التغليب للنية في القنية على نية التنمية ؛ لأنه الأصل في العروض فإن اشترى ولا نية له فهي للقنية ؛ لأنه الأصل فيها والفرق بين هاتين القاعدتين يقع ببيان قاعدة ثالثة شرعية عامة في هذا الموطن وغيره وهي أن كل ما له ظاهر فهو ينصرف إلى ظاهره إلا عند قيام المعارض أو الراجح لذلك الظاهر وكل ما ليس له ظاهر لا يترجح أحد محتملاته إلا بمرجح شرعي ولذلك انصرفت العقود المطلقة إلى النقود الغالبة في زمان ذلك العقد ؛ لأنها ظاهرة فيها ، وإذا وكل إنسان إنسانا فتصرف الوكيل بغير نية في تخصيص ذلك التصرف بالموكل فإن ذلك التصرف من بيع وغيره ينصرف للمتصرف الوكيل دون موكله ؛ لأن الغالب على تصرفاته أنها لنفسه وكذلك تصرفات المسلمين إذا أطلقت ولم تقيد بما يقتضي حلها ولا تحريمها فإنها تنصرف للتصرفات المباحة دون المحرمة ؛ لأنه ظاهر [ ص: 196 ] حال المسلمين ولذلك تنصرف العقود والأعواض إلى المنفعة المقصودة من العين عرفا ؛ لأنه ظاهرها ولا يحتاج إلى التصريح بها كمن استأجر قدوما فإنه ينصرف إلى النجر ؛ لأنه ظاهر حاله دون العزاق وعجن الطين ومن استأجر عمامة فإنه ينصرف إلى الاستعمال في الرءوس دون الأوساط ؛ لأنه ظاهر حالها وكذلك القميص ينصرف إلى اللبس ، وكل آلة تنصرف إلى ظاهر حالها عند الإطلاق ، ولا يحتاج المتعاقدان إلى التصريح بذلك بل يكفي ظاهر الحال وكذلك استئجار دواب الحمل ينصرف عقد الإجارة فيها للحمل دون الركوب ، وعكسه دواب الركوب ، ويكتفى في جميع ذلك بظاهر حال المعقود عليه واحتاجت العبادات للنيات لترددها بين العبادات والعادات وترددها أيضا بين رتبها الخاصة بها كالفريضة والتطوع والنذور والكفارات والقضاء والأداء وغير ذلك كما احتاجت الكنايات في باب الطلاق والعتاق والظهار وغير ذلك إلى النيات لترددها بين تلك المقاصد وغيرها بخلاف صريح كل باب فإنه ينصرف لذلك الباب بظاهره واستغني عن النية بظاهره فخرجت قاعدة عروض القنية وقاعدة عروض التجارة على هذه القاعدة وهي قاعدة حسنة يتخرج عليها كثير من فروع الشريعة .

[ ص: 196 ]

التالي السابق


[ ص: 196 ] حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السادس والمائة بين قاعدة " العروض تحمل على القنية حتى ينوي التجارة " وقاعدة " ما كان أصله منها للتجارة " ) يتخرج الفرق بين قاعدتي عروض القنية وعروض التجارة على القاعدة الشرعية العامة في هذا الموطن وغيره وهي أن كل ما له ظاهر فهو ينصرف إلى ظاهره إلا عند قيام المعارض الراجح لذلك الظاهر وكل ما ليس له ظاهر لا يترجح أحد محتملاته إلا بمرجح شرعي وذلك أن العروض لما كان الأصل فيها والغالب أن تكون للقنية كانت ظاهرة في القنية فتصرف إليه إذا لم يقم معارض راجح لذلك الظاهر كما إذا اشترى عروضا كعبد ، أو دار ولا نية له فهي للقنية إذ لا معارض ، وتصرف إلى معارضه الراجح عند قيامه ففي المدونة إذا ابتاع عبدا للتجارة فكاتبه فعجز أو ارتجع من مفلس سلعة ، أو أخذ من غريمه عبدا في دينه [ ص: 194 ] أو دارا فأجرها سنين رجع جميع ذلك لحكم أصله من التجارة فإن ما كان للتجارة لا يبطل إلا بنية القنية فالعبد المأخوذ ونحوه ينزل منزلة أصله قال سند في شرح المدونة فلو ابتاع الدار بقصد الغلة ففي استئناف الحول بعد البيع روايتان لمالك ولو ابتاعها للتجارة والسكنى فلمالك أيضا قولان أي بالاستئناف للحول بعد البيع مراعاة لقصد التنمية بالغلة والتجارة ، وعدم الاستئناف له بعده تغليبا للنية في القنية على نية التنمية لأنه الأصل في العروض ، وفي شرح المنتقى للباجي على الموطإ : والأموال على ضربين ؛ أحدهما مال أصله التجارة كالذهب والفضة فهذا على حكم التجارة حتى ينتقل عنه إلى القنية ، ولا ينتقل عنه إليها إلا بالنية والعمل والعمل المؤثر في ذلك الصياغة .

وثانيهما مال أصله القنية كالعروض والثياب وسائر الحيوان والأطعمة فهذا على حكم القنية حتى ينتقل عنه إلى التجارة ، ولا ينتقل عنه إليها إلا بالنية والعمل ، والعمل المؤثر في ذلك الابتياع ا هـ بتصرف ، ثم قال ما معناه والابتياع نوعان :

أحدهما التقليب على وجه الادخار وانتظار الأسواق فهذا لا زكاة على رب المال فيه ، وإن أقام أعواما حتى يبيع فيزكي لعام واحد .

الثاني التقليب في كل وقت من غير انتظار سوق كفعل أرباب الحوانيت المديرين فهذا فيه الزكاة على رب المال في كل عام على شروط : أحدها أن يقوم العرض في رأس الحول من يوم كان زكى المال قبل أن يديره ، أو من يوم أفاده .

والثاني أن يكون التقويم قيمة عدل بما تساوي العرض حين تقويمها .

والثالث أن يكون على البيع المعروف دون بيع الضرورة .

والرابع أن تبلغ قيمته مع ما يحسبه من عينه ونقده حيث كان بيعه في أكثر من عامه بالعين مما تجب فيه الزكاة فيزكيه بأن يخرج في العشرين دينارا نصف دينار وما زاد فبحسابه ، وإن لم يبلغ الجميع عشرين دينارا بأن نقص ولو قل من ثلث دينار فلا زكاة ا هـ . وفي عبق مع المتن ما خلاصته : وإنما يزكي عوض عرض أي قيمته في المدير حيث قوم وثمنه حيث باع كالمحتكر بستة شروط أشار .

لأولها بقوله : لا زكاة في عينه فخرج ما في عينه زكاة كماشية وحرث وحلي .

ولثانيها بقوله : ملك بمعاوضة عليه مالية فخرج نحو الموهوب ونحو المملوك بخلع .

ولثالثها بقوله : وكان مصحوبا بنية تجر منفردة ، أو مع نية غلة كنية كرائه عند شرائه ، وإن وجد ربحا باع ، أو مع نية قنية كنية انتفاع بوطء ، أو خدمة عند نية بيعه إن وجد ربحا وأو لمنع الخلو لأن انضمامهما لنية التجر كانضمام أحدهما له على المختار والمرجح بلا نية فلا زكاة ؛ لأن الأصل في العرض القنية ، أو مع نية قنية فقط فلا زكاة اتفاقا ، أو نية غلة فقط كشرائه بنية كرائه فلا زكاة كما رجع إليه مالك خلافا لاختيار اللخمي الزكاة فيه - قائلا - لا فرق بين التماس الربح من رقاب ، أو منافع ، أو نيتهما - أي القنية والغلة - فلا زكاة على مذهب من أسقط الزكاة من المغتل أما عند من يوجبها في المغتل فيجتمع ههنا موجب ومسقط فقد يختلف قوله إلا أن يراعى الخلاف .

ولرابعها بقوله : وكان أصله عينا ، وإن قل ، أو كهو أي كأصله عرضا ملك بمعاوضة ، سواء كان عرض تجارة أو قنية فإذا كان عنده عرض تجر فباعه بعرض [ ص: 195 ] نوى به التجارة ، ثم باعه فإنه يزكي ثمنه لحول أصله اتفاقا ، أو كان عنده عرض قنية ملك بمعاوضة فباعه بعرض نوى به التجارة ثم باعه فإنه يزكي ثمنه لحول أصله على المشهور لإعطاء الثمن حكم أصله الثاني لا أصله الأول .

وأما إذا كان عنده عرض قنية مفاد فباعه بعرض نوى به التجارة ، ثم باعه ففي ذلك طريقتان الأولى طريقة اللخمي في زكاته وعدمها قولان ، والثانية طريقة ابن الحارث إن كان أصل عرض القنية من شراء فالقولان لابن القاسم مع أحد قولي أشهب ، وقوله الآخر : وإن كان بإرث فقنية اتفاقا كما في الحطاب عن ابن عرفة .

ولخامسها بقوله : وبيع بعين لكن لا بد في المحتكر أن يكون ما باع به من العين نصابا ولو في مرات وبعد كمال النصاب يزكي ما بيع به ولو قل والمدير لا يقوم إلا إن نض له شيء ما ولو أقل من درهم ، ويخرج عما قومه من العرض ثمنا على المشهور لا عرضا بقيمته ، سواء نض له أول الحول ، أو وسطه أو آخره بقي ما نض ، أو ذهب ، وإذا لم ينض له شيء آخر الحول لم يزك ولا فرق بين أن تكون المعاوضة اختيارية ، أو جبرية كأن يستهلك شخص لآخر سلعة فيأخذ في قيمتها عرضا ينوي به التجارة ولا بين أن يكون البيع اختياريا ، أو اضطرارا كمن استهلك عرض تجارة وأخذ منه قيمته .

ولسادس الشروط بقوله : وإن رصد به الأسواق أي انتظر به ربحا خاصا فكالدين أي زكاة وحولا وقبضا واقتضاء وضما واختلاطا وتلفا واتفاقا وفرارا وبقاء انظر الحطاب ، وإلا زكى عنه ولو حليا ويزكي وزنه تحقيقا ، أو تحريا كما إذا كان عرض تجارة مرصعا بذهب ، أو فضة ، ودينه أي عدده النقد الحال المرجو المعد للنماء ، وإلا يكن كذلك بأن كان عرضا أو مؤجلا مرجوين قومه ولو طعام سلم كسلعة - أي المدير - ولو بإرث لا إن لم يرجه ، أو كان قرضا ا هـ .

المراد بإصلاح من بن وبالجملة فمسألة العروض وكذا مسألة النقدين من مسائل ما له ظاهر ينصرف إليه عند عدم قيام معارض راجح له ومنها العقود المطلقة تصرف إلى ما هو الظاهر فيها من العقود الغالبة في زمان ذلك العقد فإذا وكل إنسان إنسانا فتصرف الوكيل بغير نية في تخصيص ذلك التصرف من بيع ، أو غيره بالوكيل فإن تصرفه ينصرف لنفسه دون موكله إذ غالب تصرفاته أن يكون لنفسه ، وإذا أطلقت تصرفات المسلمين ولم تقيد بما يقتضي حلها ولا تحريمها انصرفت للتصرفات المباحة دون المحرمة لأن الحل ظاهر حال المسلمين ، وإذا أطلق العقد على العين ولم يصرح فيه بمنفعة خاصة انصرف إلى المنفعة المقصودة عرفا منه فمن استأجر قاد وما انصرف إلى النجر دون العزاق وعجن الطين ومن استأجر عمامة انصرف إلى استعماله في الرءوس دون الأوساط ، أو قميصا انصرف إلى اللبس وكذا كل عقد على أي آلة عند الإطلاق ينصرف إلى ما هو الظاهر من حالها ولا يحتاج المتعاقدان إلى التصريح بذلك بل يكفي ظاهر الحال ومن استأجر دابة فإن كانت من دواب الحمل انصرف عقد الإجارة فيها للحمل دون الركوب ، أو من دواب الركوب انصرف لركوب دون الحمل فيكتفى في جميع ذلك بظاهر حال المعقود عليه ومنها صريح باب الطلاق والعتاق والظهار وغير ذلك فإنه يستغنى عن النية وينصرف لذلك الباب بظاهره ومن مسائل ما ليس لمحتملاته ظاهر فيحمل على أحدها [ ص: 196 ] بمرجح شرعي العبادات احتاجت للنيات لترددها إما بين العبادات والعادات ، وإما بين رتبها الخاصة بها كالفريضة والتطوع والنذور والكفارات والقضاء والأداء وغير ذلك ومنها الكنايات في باب الطلاق والعتاق والظهار وغير ذلك احتاجت إلى النيات لترددها بين تلك المقاصد وغيرها فالقاعدة المذكورة عامة حسنة يتخرج عليها كثير من فروع الشريعة والله أعلم .




الخدمات العلمية